بعد انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب في شهر يوليو/تموز الماضي، تواجه الحبوب الأوكرانية تحديات كبيرة في عملية تصديرها إلى العالم، وهو أمر يعمّق أزمة الغذاء، ويؤثر سلباً في أسعار الحبوب في الأسواق العالمية.
مثَّلت اتفاقية الحبوب في يوليو/تموز 2022، بوساطة تركية ورعاية أمميّة، "طوق نجاة للأمن الغذائي ومصدر أمل في عالم مضطرب"، وفق تعبير الأمين العام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
تصريحات غوتيريش كانت عقب انسحاب روسيا بعد عام على توقيع الاتفاقية، ليعلن أيضاً أسفه الشديد تجاه هذا القرار الأحادي، فقد كان الاتفاق يكتسي أهمية كبيرة بما قدَّمه لأسواق الغذاء العالمية.
خلال فترة سريان الاتفاقية، ورغم مخاطر فشل تمديد العمل بها لثلاث مرات، صُدّر ما يقارب 32.9 مليون طن من الحبوب الأوكرانية، مثل الذرة والقمح، إلى أكثر من 45 دولة، ثلثها من الدول ذات الدخل المحدود في آسيا وإفريقيا، التي صُدّرت نسبة 25% من هذه الحبوب إليها، تشمل مساعدات برنامج الأغذية العالمي للدول الفقيرة التي بلغت أكثر من 725 ألف طن من القمح.
وأسهمت هذه الاتفاقية في "عكس الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية العالمية"، وفق الأمم المتحدة.
غير أنّ الانسحاب الروسي من الاتفاقية، برّرته موسكو بعدم التزام الدول الغربية برفع القيود المعيقة لأنشطة شركات الشحن والتأمين والبنوك الروسيّة ورفض ربط البنك الزراعي الروسي بنظام سويفت.
ويعزز هذا الانسحاب من احتمال عدم ضمان سلامة السفن التجارية العابرة للبحر الأسود، خصوصاً مع قصف الموانئ الأوكرانيّة المطلة على البحر الأسود ونهر الدانوب، ومن شكوك استمرار تدفق صادرات الحبوب الأوكرانية، وتداعيات نقصها.
وبالتالي، فالتحديات التي تواجه إنتاج وشحن وتصدير الحبوب الأوكرانية كثيرة ومتداخلة، مثل التحديات الأمنية العسكرية والاقتصادية واللوجيستية والسياسيّة.
تهديدات عسكريّة
رغم أنّ الاضطرابات في الشرق الأوسط والناتجة عن الحرب في غزة جذبت إليها أنظار العالم، فإنّ تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية على صادرات الحبوب تزداد يوماً بعد يوم، وهو ما يُنذر بتفاقم أزمة الغذاء العالمية.
وكما هو معروف، فإنّ سلاسل التوريد الغذائية عبارة عن عملية طويلة متعدّدة المراحل، تستلزم وضعاً آمناً يسمح للمنتجين بالعمل وفق الشكل المطلوب والتصدير بحريّة، وهذا ما عجزت أوكرانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن ضمانه خلال الحرب.
على سبيل المثال، ما زال المزارعون الأوكرانيون يعانون آثار الاجتياح البري الواسع الذي نفّذته القوات الروسية في المدن والقرى الأوكرانية خلال الأشهر الأولى من الحرب.
ورغم أنّ هذه القوات لم تتمركز طويلاً في هذه المناطق ودُفعت باتجاه المدن الحدودية، فإنّها عمدت إلى تعطيل التربة، وزرع الألغام، وتخريب المعدات الزراعية وتفجير الصوامع ومخازن الحبوب، وفق الرواية الأوكرانية.
ناهيك بالمساحات الزراعية الأخرى التي قُصفت وأصبحت غير صالحة للزراعة.
وفي تقرير لرويترز، قدّر علماء في المعهد الأوكراني لأبحاث علوم التربة والكيمياء الزراعية تضرّر ما لا يقل عن 10.5 مليون هكتار من الأراضي الزراعية في جميع أنحاء أوكرانيا؛ بسبب الحرب.
كما أنّ مشكلة الألغام المزروعة والذخائر غير المنفجرة في الحقول الزراعية قد تتطلب سنوات لتُزال كليّاً، وفق مسؤولين حكوميين أوكرانيين، بحكم أنّ الأولوية ستكون لإزالة الألغام الموجودة في البنى التحتية وفي المناطق المأهولة بالسكان.
ومع استمرار المعارك أحياناً في المناطق الزراعية الواقعة على خط التماس بين الجيشين الأوكراني والروسي، فإن المزارعين الأوكرانيين يواجهون تحدّيات كثيرة للاستمرار في زراعة الحبوب.
أمّا الموانئ الأوكرانية، فقد استُهدفت أيضاً عبر القصف بالصواريخ والمسيرّات الانتحارية، لا سيّما بعد تعليق العمل باتفاقية الحبوب.
وقصفت القوات الروسية يوماً بعد إلغاء الاتفاق موانئ أوديسا على طول ساحل البحر الأسود وميناء مدينة إزميل المحاذي لنهر الدانوب الذي اتخذته أوكرانيا بديلاً لموانيها في عملية تصدير الحبوب.
كما هددت روسيا باستهداف السفن التجارية عبر البحر الأسود، بذريعة اشتباهها بنقل شحنات عسكرية محتملة إلى أوكرانيا، ومع احتمال الردّ الأوكراني بالمثل تجاه السفن الروسية، فإنّ هذا التصعيد ينذر بأزمة حقيقية قادمة في الأمن الغذائي العالمي.
العامل اللوجيستي يُعقِّد التصدير
يُطرح العامل اللوجيستي عاملاً أساسياً يواجه عملية الإنتاج الزراعي الأوكراني وصادراتها.
وبوصفه نتيجة للغزو الروسي على أوكرانيا، فإنّ المشكلات والعراقيل اللوجيستية أصبحت هي التي تُملي على الشركات الزراعية والمزارعين ما يزرعونه، بما يتناسب مع المنطق الاقتصادي الهادف للربح.
وتحتّم التكلفة المرتفعة لنقل الحبوب خارج البلاد على المزارعين عدم الاعتماد على زراعة القمح الشتوي والذرة الرخيصة، والاهتمام أكثر بزراعة زهور عباد الشمس واستخراج زيوتها.
ورغم أنّ أسعار الحبوب نفسها أصبحت مرتفعة في ظل الحرب المستعرة، فإنّ تكدسها في المخازن الزراعية وصوامع الموانئ قد يدفع المزارعين إلى إنتاج كميات أقل للموسم القادم.
وتواجه صادرات الحبوب الأوكرانية مشكلة اقتصادية أخرى، هي تقلص التدفق المالي للشركات الأوكرانية والمزارعين، وهي بشكل عام أزمة وطنية تعانيها الحكومة الأوكرانية والفاعلون الاقتصاديون، لذلك دائماً ما يطالب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالدعم المالي لأوكرانيا ولو على سبيل الدَّيْن على أن يُسدد بعد انتهاء الحرب.
وبما أنّ القطاع الزراعي هو شريان الاقتصاد الأوكراني، فالشركات والمزارعون الأوكرانيون هم الأكثر تضرراً من نقص السيولة المالية، وبالتالي ليس أمامهم من خيار سوى أن يستمرّوا في زراعة الحبوب الرخيصة، رغم تكدّس المحاصيل في مخازن وصوامع الموانئ.
أما بعد الانسحاب الروسي من الاتفاق، فكان على أوكرانيا تفعيل الخيارات الأخرى للتوريد، التي نوقشت مع الاتحاد الأوروبي في بداية الحرب، بعيداً عن الخطوط التجارية في البحر الأسود من أجل ضمان تدفق صادرات الحبوب.
لكنّ هذه الطرق، ومنها البرية إلى بحر البلطيق عبر دول شرق أوروبا المجاورة مثل بولندا وليتوانيا وسلوفاكيا، أو من خلال ميناء كونستانتا في رومانيا على نهر الدانوب، كلها تواجه صعوبات وتحديات لوجيستية كبيرة.
وتُعد السّكك الحديدية في أوكرانيا ودول شرق أوروبا غير ملائمة، وبناها التحتية ضعيفة، ولا تحمل كميات كبيرة من الحبوب، إضافةً إلى أنّ حكومات هذه الدول تعارض قرار بروكسل السماح بدخول الحبوب الأوكرانية الرخيصة حمايةً لمزارعيها، أما ميناء كونستانتا على نهر الدانوب، فلا يسع لتصدير كثير من الحبوب الأوكرانية، ولا تَحمُّل تخزينها.
وفي الخيارين معاً، تعد مدّة الشحن طويلة والصعوبات اللوجيستية كبيرة، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الحبوب الأوكرانية، ويزيد من أزمة الأمن الغذائي العالمي، خصوصاً في الدول المعتمدة على الحبوب الأوكرانية في الشرق الأوسط وإفريقيا، مثل لبنان وتونس ومصر واليمن والسودان.
صراع دولي يعصف بالحبوب
وعلى الصعيد السياسي، أصبح ملف الحبوب الأوكرانية ورقة سياسية تعمد أطراف الحرب إلى استخدامها لأغراض مختلفة، أهمها دعم مجهودها الحربي في الميدان والسعي للحصول على دعم دولي لسرديّة كل طرف.
ويؤكد عاتق جار الله، المختص في العلاقات الدولية، أنّ "الاستقطاب الكبير الذي يعيشه المجتمع الدولي بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والمعسكر المقابل الذي يضم الصين وروسيا، أدى إلى فشل اتفاقية الحبوب التي كان مخططاً لها أن تكون نقطة بداية مفاوضات سلام بين أطراف النزاع".
ويرى جار الله في حديثه مع TRT عربي، أنّ "تفويت مثل هذه الفرصة التاريخية التي تحققت بجهود تركيّة وأممية سعت لمعالجة الأسباب الحقيقية وراء الحرب الروسية-الأوكرانية، سيؤدي مرة أخرى إلى أزمة غذائية عالمية".
ويضيف أن "موسكو تسعى أيضاً إلى تخفيض حجم صادرات الحبوب الأوكرانية إلى دول آسيا وإفريقيا واستبدال الصادرات الروسية بها، لغرض توسيع نفوذها في هذه الدول وكسب دعمها في المحافل الدولية".
ويشير جار الله إلى أن الحرب الإسرائيلية على غزة وما واكبها من تصريحات للرئيس الأوكراني داعمة لإسرائيل، قد تضُرّ بموقف كييف و"مظلوميتها" أمام "العالم العربي والإسلامي في آسيا وإفريقيا، ما قد يؤثر على صادراتها من الحبوب".
وأخيراً، فإن تبعات الانسحاب الروسي من اتفاقية الحبوب وارتفاع حدة التوتر في البحر الأسود، فضلاً عن التحديات الاقتصادية واللوجيستية التي تواجه الخيارات البديلة لتصدير الحبوب الأوكرانية، وارتفاع أسعار الحبوب والأغذية، والتجاذبات السياسية وحرب السرديات الذي يعكس المنافسة بين المعسكرين الغربي والشرقي؛ تجعل من سلامة وصول الحبوب الأوكرانية إلى مستفيديها أمراً صعباً، كما أنّ كثيراً من موائد الطعام في الدول ذات الدخل المحدود في آسيا وإفريقيا ستعاني نقص منتجات الحبوب الأوكرانية، وفي مقدمتها الخبز.