على مدار تاريخها الحديث، خضعت السياسة الخارجية الأمريكية للكثير من التحولات الجوهرية تراوحت بين السياسات الانعزالية والإمبريالية والتدخلية، سواء التدخلية أحادية الجانب أو التدخلية متعددة الأطراف. ونتجت هذه التحولات عن عوامل عديدة كان بعضها داخلياً يتعلق بالأجندة السياسية للأحزاب الأمريكية وطبيعة التوافقات بينهم، والبعض الآخر خارجياً يتعلق بتغيرات البيئة الدولية.
وفي ظل هذه التحولات بقي مبدأ واحد بعيداً عن التجاذبات السياسية الداخلية أو تغييرات البيئة الدولية يُجمع عليه الساسة في واشنطن من كلا الحزبين وهو مبدأ مونروMonroe Doctrine الذي أعلنه الرئيس الأمريكي الخامس جيمس مونرو بتأثير من وزير خارجيته جون كوينسي آدمز عام 1823.
لقد كان مبدأ مونرو حاضراً دائماً في تبرير أي سياسة خشنة تتخذها الولايات المتحدة ضد أي تدخُّل خارجي في حديقتها الخلفية ضمن حدود القارة الأمريكية، أو تبرير لسياساتها التدخلية في دول أمريكا اللاتينية لحفظ مصالحها الحيوية.
لقد كان الرد الأمريكي حازماً وسريعاً عندما حاولت ألمانيا -على سبيل المثال- استمالة المكسيك للدخول معها في تحالف ضد الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الأولى، مقابل أن تعيد لها الأراضي المكسيكية التي سيطرت عليها الولايات المتحدة من المكسيك عام 1845 في حال انتصروا في الحرب. وهي الاستمالة التي جاءت عبر التلغراف الشهير الذي حمل اسم وزير خارجية ألمانيا آنذاك آرثر زيمرمان. لقد كان هذا الاستفزاز أحد أهم الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة لدخول الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا.
غير أن الاستفزاز الأخطر جاء من الاتحاد السوفيتي عام 1963 إبان ما عرف بأزمة صواريخ كوبا عندما عمدت موسكو إلى نشر صواريخ نووية في كوبا لدعم الحكومة الشيوعية هناك والتي أقامها فيدل كاسترو بعد الإطاحة عبر ثورة مسلحة بنظام الدكتاتور فولهنسيو باتيستا عام 1955. لقد وصلت الأزمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حينها إلى مرحلة حرجة قاربت من اشتعال حرب عالمية ثالثة تستخدم فيها القوتان العظميان القنابل النووية على نطاق واسع.
واليوم تعود موسكو بعد ما يزيد عن نصف قرن من حادثة أزمة صواريخ كوبا لتستفز الولايات المتحدة في حديقتها الخلفية، ولكن هذه المرة على الأراضي الفنزويلية التي تشهد حالة من عدم الاستقرار جراء التدخل الأمريكي في محاولة الإطاحة بالرئيس نيكولاس مادورو. فقد راقبت واشنطن بكثير من القلق إرسال روسيا طلائع من عسكرييها بلغ عددهم مئة إلى الأراضي الفنزويلية في إطار التعاون الاقتصادي بين البلدين حسب ما صرح به الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف.
وفي تصريح لها يوم الثلاثاء 2 إبريل/نيسان 2019، قالت وزارة الخارجية الأمريكية إن "استمرار إرسال روسيا أفراداً من جيشها لدعم النظام غير الشرعي لنيكولاس مادورو في فنزويلا ينطوي على خطر إطالة أمد معاناة الشعب الفنزويلي الذي يدعم بأغلبية ساحقة الرئيس المؤقت خوان غوايدو".
من جانبه، تبنّى البيت الأبيض لهجة أكثر حدة في الرد على الخطوة الروسية هذه. ففي معرض رده على سؤال أحد الصحفيين في المكتب البيضاوي خلال اجتماعه مع فابيانا روزاليس -زوجة خوان غوايدو الذي تدعمه واشنطن بديلاً عم مادورو رئيساً لفنزويلا- أجاب الرئيس ترمب بشكل حاسم بأن على "روسيا أن تخرج من النزاع".
وتأخذ موسكو هذه الخطوة مدفوعة بالثقة التي اكتسبتها مؤخراً بسبب مغامراتها الخارجية والتي صادفت رداً خافتاً من الولايات المتحدة الأمريكية تمثَّل في الغالب بفرض بعض العقوبات الاقتصادية على موسكو وطردها من مجموعة الثمانية الكبار G8.
غير أن المختلف هنا هذه المرة أن ساحة العمليات تجري ضمن نطاق الخطوط الحمراء الأمريكية. فالعبث الروسي في الأراضي المحرمة وفق مبدأ مونرو في نصف الكرة الغربي يختلف عن ساحة العمليات في شرق أوروبا أو في الشرق الوسط. هنا تقترب موسكو كثيراً من وتر الولايات الأمريكية الحساس، وتعبث في حديقتها الخلفية مباشرة. وبالنظر إلى أن إدارة الرئيس ترمب تبحث جميع الخيارات في التعاطي مع نظام الرئيس الفنزويلي مادورو ومنها الخيار العسكري، فإن التدخل العسكري الروسي في فنزويلا يبدو مغايراً لتدخلها في مناطق أخرى، ولا شك بأنه أكثر خطورة.
يرى الكثير من الخبراء أن روسيا لا تبحث عن تحدي الولايات المتحدة في فنزويلا وذلك للفارق الكبير في الإمكانيات والقدرات العسكرية بين البلدين، ولطول خطوط الإمداد بين موسكو وكراكرس. غير أن روسيا تسعى إلى جعل مهمة الولايات المتحدة في فنزويلا أكثر مشقة، وذلك في محاولة منها لتعزيز صورتها الدولية كواحدة من الدول الكبرى القادرة على ممارسة مهمات استراتيجية بعيداً عن حدودها القومية وتحدي الولايات المتحدة من ناحية، والحفاظ على مصالحها الاقتصادية في فنزويلا من ناحية أخرى. فالحكومة الفنزويلية تدين لوزارة المالية الروسية بنحو 3.1 مليار دولار من الأسلحة والمنتجات الزراعية. وهي مدينة أيضاً لشركة روسنفت النفطية الروسية العملاقة بأكثر من ملياري دولار على شكل قروض.
يسعى الرئيس بوتن ومنذ توليه الحكم قبل ما يقرب من عقدين إلى تعزيز أوراق القوة لدية في مواجهة الغرب. ونظراً إلى الملفات الشائكة العديدة بين روسيا والولايات المتحدة فإن الحصول على ورقة ضغط تتمتع بقيمة استراتيجية خطوة تستحق المغامرة من وجهة نظر الكرملين. فعندما يأتي الأمر ليلامس الملفات الحساسة لروسيا كالدرع الصاروخية التي تنوي الولايات المتحدة نَصْبها في أوروبا الشرقية على سبيل المثال، فإن الورقة السورية أو الأوكرانية لا تجدي نفعاً في المساومة نظراً إلى عدم اكتراث إدارة الرئيس ترمب كثيراً بأمن سوريا أو بأمن أوروبا إلى حد ما.
ولكن عندما يتعلق الأمر بحديقة الولايات المتحدة الخلفية، فإن امتلاك ورقة قوة تصبح ذات قيمة للمساومة وتجبر البيت الأبيض على الجلوس والاستماع لبحث الخيارت التي تحفظ مصالح البلدين.
وعلى الرغم من بقاء الرد العسكري الحاسم وارداً كما يرى بعض الخبراء، فإنه ووفقاً لتصريحات بولتن الأخيرة يبدو أنه يتوارى قليلاً. ففي تصريحاته الأسبوع الماضي لوكالة رويترز قال مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتن رداً على سؤال أحد الصحافيين بأنه "يمكنني أن أخبرك أن الكثير يحدث تحت السطح. إن المعارضة على اتصال بأعداد كبيرة من الأمريكيين بالإضافة إلى مؤيدين آخرين داخل إدارة مادورو، ما يشير إلى أن قبضة مادورو على السلطة ليست قوية كما تبدو".