تعود هجرة المسيحيين في العراق إلى أحداث عام 2003، عقب اجتياح الغزو الأمريكي، فقد شهدت البلاد موجات هجرة واسعة إلى خارج العراق وحركات نزوح داخلية (Others)
تابعنا

تعود هجرة المسيحيين في العراق إلى أحداث عام 2003، عقب اجتياح الغزو الأمريكي، فقد شهدت البلاد موجات هجرة واسعة إلى خارج العراق وحركات نزوح داخلية بين المدن الشمالية شملت جميع مكونات المجتمع العراقي.

فالفوضى التي سبّبها الغزو الأمريكي أدّت إلى افتعال الاقتتال الطائفي، وقتل وتهجير وتخويف المسيحيين بين عامَي 2006-2008، ثم أفرز الوضع الأمني المضطرب ظهور الجماعات المتطرفة الإرهابية، وتهديدهم للوجود المسيحي إلى أن وصلت الانتهاكات إلى هجرة ما تبقى من المسيحيين بعد سيطرة تنظيم الدولة "داعش" الإرهابي على مناطق واسعة من البلاد عام 2014، خصوصاً في مناطق سهل نينوى القريبة من مدينة الموصل، التي اعتبرها صُنّاع القرار النكبة الكبرى في تاريخ مكونات المجتمع العراقي خلال الـ20 عاماً الماضية.

إحصائيات حكومية صادمة

بعد الصراعات والنزاعات التي شهدها العراق طوال ما يقارب الـ20 عاماً الماضية منذ 2003، تَعرَّض المسيحيون لحملات هجرة متكررة، وانخفض عددهم بشكل خطير هدّد تركيبة المجتمع العراقي، وسط عدم قدرة الحكومات العراقية المتعاقبة على إقناع المسيحيين بالعودة إلى مناطقهم الأصلية، وتوفير الأمن لأماكن وجودهم، بل وبقي عديد من الكنائس فارغاً من الطقوس الدينية وأغلقت أبوابها، وفشلت المنظمات الدولية الإنسانية في إيجاد الحلول لعودة المسيحيين.

في هذا السياق قال عضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان علي البياتي لموقع TRT عربي، إن المسيحيين "تَعرَّضوا لعمليات تهجير متعددة، وكان عددهم قبل عام 2003 يقارب 1,500,000، ثم تراجع هذا العدد ليصل إلى 250 ألفاً حتى عام 2014، ثم تنازل أكثر حتى وصل إلى أقلّ من 100 ألف، هاجر أغلبهم إلى أوروبا والولايات المتحدة، أو نزحوا إلى مدن إقليم كردستان شمالي العراق".

وأضاف البياتي: "بعد عمليات تحرير المدن العراقية من قبضة تنظيم الدولة (داعش) عاد 30% فقط إلى مناطق سهل محافظة نينوى وبعض أحيائها القديمة بمدينة الموصل، والآن يعيش ما يقارب 400 عائلة فقط في المدينة وسط حالات من الخوف واحتمالية هجرتهم إلى خارج البلاد، وهذه الأزمة الاجتماعية أثرّت بشكل حساس في تركيبة المجتمع وانسجامه، مما أدى إلى خسارة العراق مكوِّناً مهمّاً تمتدّ حضارته وتاريخه إلى آلاف السنين".

20 عاماً من الانتهاكات ضد المسيحيين

يصف عديد من المراقبين ما حلّ بالعراق بأنه يصل إلى حدّ "الكارثة الاجتماعية" التي عصفت بالعراق، تحديداً قبل نحو 8 سنوات، إذ خلت الموصل بمحافظة نينوى من المسيحيين لأول مرة في تاريخ البلاد، بعد اجتياح تنظيم "داعش" لها في يونيو/حزيران 2014.

أثار الدمار التي ألحقها تنظيم داعش الإرهابي بكنيسة "الحبل بلا دنس" في مدينة قرقوش الواقعة على بعد 30 كيلومترا جنوب الموصل. (Others)

في هذا السياق قال رئيس الوقف المسيحي في العراق رعد كجه جي لموقع TRT عربي: "اجتياح مسلحي داعش للموصل وفرض الأحكام التعسفية بحقّ المسيحيين أدّى إلى ترك مسيحيي الموصل كنائسهم ومنازلهم وممتلكاتهم، إلى جانب ذكرياتهم وتاريخهم في المدينة القديمة، لعدم قدرة مؤسسات الدولة على حمايتهم من بطش التنظيم الإرهابي آنذاك".

وتابع كجه جي: "تَعرَّض المسيحيون في العراق لانتهاكات جسيمة، لا سيما بعد مقتل أكثر من 1300 مسيحي بين عامَي 2003 و2014، ثم نكسة هجمة تنظيم داعش التي أدت إلى نزوح ما يقارب 150 ألفاً، واختطاف 165 شخصاً خلال 2014-2017، وهذه الأرقام تؤشّر على الخطر المحدق بالوجود المسيحي في العراق".

وأشار إلى أن "أسباباً متعددة أدّت إلى تفاقُم هجرة المسيحيين في العراق، ومن أبرزها: اضطراب الوضع الأمني وتصاعد النزاع السياسي بين الأحزاب الحاكمة، وعودة حالات الاستهداف الطائفي، بالإضافة إلى انتشار عناصر التنظيمات المسلحة المتطرفة. كل تلك الأسباب كانت وراء هجرة المكون المسيحي من العراق".

أوضاع ومعاناة المسيحيين بمحافظة نينوى

بعد معارك دموية بين تشكيلات القوات العراقية وعناصر تنظيم داعش الإرهابي استعاد العراق بدعم من التحالف الدولي أراضيه كافَّةً عام 2017، وخلّفت حرب التحرير ضد داعش دماراً كبيراً لدور العبادة والمستفشيات والبنى التحتية في أهم مفاصل محافظة نينوى، بما فيها أقضيتها ونواحيها، في أطول معركة في التاريخ الحديث بواقع 196 يوماً من المعارك الطاحنة التي رسمت واقعاً جديداً في المدن المحررة من العراق.

رامي جورخي، مسيحي من مدينة الموصل ويعمل أستاذاً في مدرسة ثانوية، قال لـTRT عربي عن معاناة المسيحيين: "نحن نسكن في قضاء الحمدانية الواقع شرق مدينة الموصل، وتَعرَّضنا للتهجير مرتين، في أيام سيطرة داعش الإرهابي لمناطقنا عام 2014، ثم أيام سيطرة الفصائل المسلحة بعد عمليات التحرير 2017، فقد تهدمت بيوتنا وسُرقَت بساتين عوائلنا، وسُوّيَت كنائسنا بالأرض".

وأضاف جورخي: "نزحنا من مناطقنا ولم نستطع العودة إليها بسبب انعدام فرص العمل، وإحراق بيوتنا، وتدمير البنى التحتية بعد حرب التحرير الأخيرة، فلا نستطيع العودة إلى أراضينا بعد انهيار المستشفيات والمدارس، وقد تَعرَّضنا لابتزازات متكررة من بعض الجماعات المسلحة التي سيطرت بعد التحرير".

بدورها قالت الحقوقية المسيحية نرمين كابو لموقع TRT عربي: "ما زلنا مهجَّرين ونازحين نحلم بالرجوع، ولكن الواقع الأمني مضطرب، والوضع الاقتصادي مشلول، ولا مساعدات من الحكومة لتعويضنا، لأنها بالأساس تُعاني أزمات اقتصادية في ميزانيتها، ولا نعلم ما المصير القادم الذي ينتظرنا".

وحذّرت كابو من "استمرار مسلسل هجرة المسيحيين وهربهم من العراق، في ظل الانسداد السياسي وعدم تفعيل قوانين صارمة تجرّم التمييز الطائفي وتُحاسب كل من يحرِّض على مكونات المجتمع أو يهمِّشها ويُقصِيها بقوة السلاح من جهة وسرقة المستحقات التعويضية من جهة أخرى".

ملفّ عودة المسيحيين إلى مناطقهم

تضمّ نينوى 7 مكوّنات متنوعة في نسيجها الاجتماعي الذي يعكس أكبر تنوع إثني في العراق، وثالث أكبر المكونات هم المسيحيون الذين هُجّروا وعاشوا معاناةً جمّة بسبب الحروب والصراعات والانهيار الأمني في البلاد طوال السنوات السابقة، مما اعتبرهُ السياسيون خسارة كبيرة ونادوا بعودة المسيحيين إلى مناطقهم.

ووفقاً لتصريح عضو مجلس محافظة نينوى خلف الحديدي لـTRT عربي، فإن "مسلسل الانتهاكات ضد المسيحيين ساهم بطريقة مباشرة في هجرتهمن وفقدان السيطرة على الوضع الأمني كان سبباً وجيهاً لعدم عودة المسيحيين إلى مناطقهم بسهل محافظة نينوى، فعودتهم مرتبطة بتحرُّكات الحكومة العراقية من خلال إعادة إعمار بيوتهم ومحلاتهم، واستعادة بساتينهم ومحالِّهم، والحفاظ على حقوقهم في التمثيل السياسي والاقتصادي، وهذا يتطلب جهوداً قانونية وسياسية حثيثة من أعضاء مجلس محافظة نينوى ونواب المحافظة في البرلمان العراقي".

وأضاف الحديدي: "كانت لزيارة البابا فرنسيس التاريخية لمدينة الموصل منتصف عام 2021، وقع مؤثر ومهم لعودة بعض العوائل المسيحية القليلة إلى الموصل، بأملٍ إعادة إعمار المناطق التي يسكنها المسيحيون، ولكن بعد الزيارة بأشهر قليلة هاجر المسيحيون مجدداً من بيوتهم وخرجوا نحو مدن إقليم كردستان بشمال العراق، وباعوا ما تَبقَّى من بيوتهم وممتلكاتهم، تاركين وراءهم كل الذكريات بعد انهيار أملهم في تعويضهم وتوفير فرص العمل لعوائلهم، في ظلّ استمرار الانتهاكات ضدهم".

وأعرب عن قلقه قائلًا: "هرب المسيحيين من مناطقهم الأصلية سيؤدي إلى نزوح بقية الأقليات من محافظة نينوى، وسيؤثر ذلك سلباً في تاريخ وحضارة مدينة الموصل، التي طالما عاش أهلها بسلام وانسجام في القرون السابقة، ولكن ما حدث من إهمال دولي ومحلي كان مؤشراً لأيام مخيفة تنتظر محافظة نينوى ما لم يضغط ممثلو المحافظة من السياسيين على الحكومة لتعويض المتضررين وإعمار المدن وتوفير الخدمات لسكان المحافظة".

بعد كل تلك السنوات المريرة التي عاشها المسيحيون، ما زال الناشطون والمدافعون عن حقوق الإنسان في العراق يُطالبون بأهمية الحفاظ على المكون المسيحي لا سيما أنه مكوّن مجتمعي أصيل يعكس هُويَّة مدينة الموصل بالدرجة الأولى، وذاكرة العراق، ولا يمكن الاستغناء عن تاريخ وحضارة الأشوريين الذين ساهموا في بناء المجتمع بالعلم والثقافة والفن. ولكن تلك الجهود تصطدم بحقيقة الأوضاع الأمنية المضطربة وفوضى الصراعات السياسية، وانعدام خطط الإعمار والتنمية، وغياب فرص العمل، وكل تلك العوامل ساهمت في هجرة المسيحيين وتركهم بيوتهم وأراضيهم لإشعارٍ غيرِ محدَّد.



TRT عربي
الأكثر تداولاً