تابعنا
كانت السلطات الحكومية العراقية قد جددت رخصة الهواتف المحمولة لشركات الاتصالات لمدة 5 سنوات قاضية تنتهي بحلول عام 2026، على أن تدفع الشركات 50 بالمئة من الديون المترتبة عليها لصالح الدولة.

واجه هذا القرار اعتراضات برلمانية شديدة مطالبةً شركات الاتصالات بدفع الديون المتراكمة عليها وعدم استغلال مقدَّرات الدولة، والابتعاد عن تغطية ملفات الفساد.

وبعد أكثر من ثلاثة أشهُر من المرافعات القضائية في إطار شكوى ضد الحكومة بشأن هذا التجديد، أصدرت أخيراً محكمة الكرخ في العاصمة العراقية بغداد قراراً يقضي برفض تجديد عقود تراخيص شركات الهاتف النقال، التي سبق أن وافقت الحكومة العراقية على تمديد عملها لمدة 5 سنوات جديدة، وبين قرار منح التراخيص ورفضها يأتي دور وزارة الاتصالات التي تتعرض لاختراقات سياسية في مؤسساتها وهيئاتها وسط تكتم إعلامي لم يُنصف المواطن، وتجدُّد المحاولات الملتوية للالتفاف وتمرير قرار تجديد رخصة شركات الاتصالات دون دفع الديون.

البرلمان يرفض التجديد

صدم القضاء العراقي شركات الهواتف المحمولة في البلاد، وأبرزها آسياسيل (Asiacell)، وزين العراق و(Zain)، وكورك تيليكوم (Korek Telecom)، وبقراره الأخير المتضمن إبطال تجديد تراخيص عملها إلى حين تسديد الديون المترتبة عليها البالغة بإجمالها أكثر من 3 مليارات دولار أميركي.

بهذا الصدد عضو لجنة متابعة تنفيذ البرنامج الحكومي والتخطيط الاستراتيجي في البرلمان العراقي محمد شياع السوداني تحدث لـTRT عربي بالقول: "عقود تراخيص الهاتف النقال في العراق تنطوي على مخالفات دستورية وقانونية، فضلاً على تسببها بإضرار بالمال العام وحرمان الخزينة العامة من مبالغ كبيرة مستحقة على الشركات".

وأشاد السوداني: "قرار المحكمة رفض التجديد كان شجاعاً، وأثبت فيه القضاء العراقي استقلاليته ونزاهته ومهنيته في قضية شغلت الرأي العامّ طوال الفترة الماضية، وهذا القرار الصارم كان بفضل نواب في البرلمان العراقي ضغطوا على الحكومة، وساهموا بكشف الأوراق وعمليات الفساد في شركات الاتصالات التي أثبتت تهرُّب الشركات الثلاث الكبرى بعد تسديد الديون التي وصلت إلى أكثر من 4.5 مليار دينار عراقي، أي ما يعادل 3 مليارات دولار أمريكي".

كما أضاف: "إن الشركات الحالية استنزفت الكثير من الأموال مقابل خدمة لم ترتقِ إلى المستوى المطلوب، لذلك على مجلس الوزراء الإسراع في تشغيل الرخصة الوطنية الرابعة بإنشاء شركة الاتصالات الوطنية الحكومية التي يطالب بها الشعب العراقي منذ عام 2010، والتي يُعتبر غيابها جزءاً من الفساد في ملف الاتصالات، وتكمن مسألة عرقلتها في أن تخلو الساحة للشركات الثلاث الكبرى، زين للاتصالات، وآسياسيل للاتصالات، وكورك تيليكوم المحدودة للاتصالات".

وتابع النائب محمد شياع السوداني: "بنهاية عام 2021 ستنتهي تراخيص شركات الهاتف النقال، التي بدأت في عام 2004"، مؤكداً أن "الشركات الحالية أثبتت فشلها من خلال تقديم أسوأ خدمة وفق مؤشر غلوبال العالمي، الذي يضع العراق في المرتبة 131 من أصل 139 دولة، في خدمات الاتصالات والإنترنت، ما يعني أن تلك الشركات لن تستطيع أن تقدم أكثر مما قُدّم طوال الفترة الماضية".

إهدار للمال العام

سجلت لجنة النزاهة في البرلمان العراقي ملاحظاتها، وكان أبرزها رداءة الخدمات المقدمة في الترددات وشبكات الاتصال وعدم حصول الزبون على راحته في استخدام التطبيقات المتنوعة، إضافة إلى عدم تسديدها الديون المترتبة عليها، في وقت يواجه فيه العراق صعوبات اقتصادية وسياسية مع تفشّي جائحة كورونا (كوفيد-19) وانخفاض أسعار النفط.

وبخصوص هذا الأمر صرّح عضو لجنة النزاهة في البرلمان النائب سعد حسين هاشم لـTRT عربي قائلاً: "كثير من الملاحظات حول عمل شركات النقال العاملة في البلد، لا سيما خدماتها المتواضعة وأسعار كارتات الشحن والضرائب التي تدفعها للدولة وعديد من النقاط المسجلة عليها لدى مجلس النواب".

واعتبر هاشم أن ما يجري من عمليات السرقات والصمت الحكومي هو إهدار للمال العامّ، خصوصاً أن العقد الجديد يقضي بأن تدفع الشركات الثلاث 50% من الديون المترتبة عليها والمقدَّرة بأكثر من 1.4 مليار دولار، فيما يُقسَّط النصف الآخر على السنوات اللاحقة.

وحول تحمُّل المواطن تكاليف باهظة على خدمات الاتصالات قال هاشم: "المواطن هو من تحمل وزر الزيادة الضريبية الـ20% التي فرضتها الحكومة عام 2015 على هذه الشركات، وفق سياسية التقشف وقتها، مما أدى إلى ارتفاع أسعار كارتات الشحن في ظل رداءة خدمات الإنترنت والاتصالات، ولكن الحكومة تتعرض لضغوط من أحزاب سياسية كبيرة ذات نفوذ في وزارة الاتصالات، إذ تمتلك شركات الاتصالات، لذلك لا تستطيع الدولة مواجهة هذه الشركات".

وتَعهَّد هاشم بأن "مجلس النواب العراقي سيستدعي رئيس ومجلس مفوَّضي هيئة الإعلام والاتصالات، وهي الجهة المختصة بالتعاقد، للاستفسار عن جدوى تمديد عقد شركات الاتصالات"، حسب تعبيره.

مخالفات قانونية وخسائر حكومية

اعترفت وزارة الاتصالات العراقية بضعف شبكة الإنترنت والاتصالات نتيجة عدة عوامل، منها الفساد المستشري، وضعف الشركات المجهزة للخدمة، وغياب رؤية الوزارة خلال السنوات الماضية، نتيجة القرارات السياسية والمصالح الحزبية، ومخالفة أحزاب سياسية كبيرة في الدولة للقوانين الحكومية.

وفقاً لهذا السياق فقد تحدث الخبير القانوني محمد الساعدي مصرّحاً لـTRT عربي بأن "المحكمة العراقية رّدت التظلم الذي تقدمت به شركات الهاتف النقال، من خلال إصدارها قرار وقف تجديد التراخيص الخاصة بشركات الاتصالات"، مشيراً إلى "كثير من المخالفات في عمل تلك الشركات، منها مخالفة قانون تحصيل الديون الحكومية، ومخالفة القانون رقم 21 لعام 2013 الخاص ببيع ممتلكات الدولة وتأجيرها، ومخالفة التعليمات النافذة الخاصة بالعقود الحكومية، فضلاً عن عدم تسديد الضرائب والديون التي في ذمتها".

وأكد الساعدي أنه "ليس للقضاء مشكلة مع الشركات المذكورة، إذ إن لها شخصية معنوية تمثل مالكيها، لكن المشكلة أن هذه الشركات لم تطرح أسهمها للبيع والشراكة، وفقاً لما ينصّ عليه القانون"، موضحاً أن "من حقها أن تعود للتنافس وفق الأطر القانونية السليمة، ودخول منافسة مع الشركات الأخرى".

وأردف الساعدي في حديثه بأن "العراق يخسر 40 مليون دولار يوميّاً نتيجة ضعف خدمة الإنترنت أو انقطاعها، بسبب توقف أعمال بعض الشركات، منها المصارف ووسائل الإعلام وغيرها. فعلى سبيل المثال المصرف العراقي للتجارة، وهو مصرف حكومي، قدّم اعتذاراً إلى عملائه عن الخلل الذي حدث في أجهزة الصراف الآلي بسبب تذبذب خدمة الإنترنت، مما أدّى إلى عدم صرف المبالغ منها".

وأوضح الخبير القانوني في حديثه أن "في العراق ثلاث شركات تعمل في مجال الهاتف النقال، هي شركة زين للاتصالات، وشركة آسياسيل للاتصالات"، وشركة كورك تيليكوم المحدودة للاتصالات، وتشير التقديرات إلى أن شركات الهواتف المحمولة تدين للدولة بمبلغ يتجاوز 4 مليارات دولار، فيما لم تتمكن الحكومة من تأسيس شركة وطنية، أو تقديم رخصة رابعة، على الرغم من طرح الموضوع للنقاش منذ أكثر من 10 سنوات، وهذا مؤشر على فشل الدولة وعلى ملفات الفساد وسيطرة الأحزاب على شركات الاتصالات وعرقلتها كل مشاريع إنشاء شركة وطنية تابعة للدولة العراقية".

ديون متراكمة وأحزاب فاسدة

أكد خبراء اقتصاديون أن تسديد الشركات الثلاث الديون المترتبة عليها سينعكس إيجاباً على اقتصاد العراق، والديون تعادل ما نسبته 25% تقريباً من القرض الأخير الذي صوّت عليه البرلمان، وعلى الحكومة العراقية كما صرّح الباحث الاقتصادي عقيل الأنصاري لـTRT عربي، "الإسراع في أخذ جميع الضرائب والديون والغرامات من هذه الشركات وغيرها لاجتياز الأزمة الاقتصادية الحالية".

وتابع الأنصاري: "العراق بأمسّ الحاجة في المرحلة الحالية إلى شركات أجنبية تدخل سوق المنافسة للاستثمار فيها، وتقدّم أفضل الخدمات، مثل شركات فودافون (Vodafone) وأورنج (Orange)، وغيرهما من الشركات العالمية التي لها دور لن يقتصر على الاستثمار، بل على يشمل نقل التكنولوجيا الحديثة المستخدَمة في أوروبا والدول المحيطة أيضاً".

وأكد الأنصاري في حديثه أن "كبرى شركات الاتصالات يملكها أحزاب سياسية، إذ يملك أغلب أسهم شركة زين العراق تيار الحكمة الوطني، وشركة آسياسيل يملك أغلب أسهمها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وشركة كوروك تيلكوم يملك أغلب أسهمها الحزب الديمقراطي الكردستاني، وهذه الأحزاب هي من يسيطر على قطاع الاتصالات وهي من لا يدفع الديون المتراكمة ويتهرب من الضرائب، ويعرقل عملية إنشاء شركة اتصالات وطنية تابعة للحكومة العراقية".

ويرى الأنصاري أن مقترح بناء شركة محلية يحتاج إلى مدة زمنية طويلة جدّاً في وقت يعاني فيه العراق قلة الخبرات بهذا المستوى من التكنولوجيا المتقدمة، مؤكداً أن الإتيان بشركات أجنبية يكون أفضل من بناء أخرى محلية، لأن النقطة المهمة في الأولى أنها شركات لا تدخل في الفساد ودفع الرشوة، مما ينعكس إيجاباً على قطاع الاتصالات ويسهم في نقل تجربتها الكاملة مع تأثيرها المباشر في القطاع الذي تعمل فيه، إضافة إلى القطاعات الأخرى، مما يزيد مساحة الاستثمار ونقل الاطمئنان إلى المستثمر الآخر".

ردّ هيئة الإعلام والاتصالات

ونتيجةً للرفض البرلماني الواسع لتجديد عمل شركات الهاتف النقال، أصدرت هيئة الإعلام والاتصالات بياناً، أوضحت فيه أن قرار التمديد لم يأتِ وليد اللحظة، بل وفق استشارات مع عدد من الخبراء والشركات المختصة في هذا المجال، بالإضافة إلى أخذها برأي مجلس الأمناء في الهيئة، ومن ثم عرض الموضوع على مجلس الوزراء.

وفي حديثه لـTRT عربي، أكد مدير المكتب الإعلامي والمتحدث الرسمي لهيئة الإعلام والاتصالات حسين زامل قائلاً: "هيئة الإعلام والاتصالات لم تتجاوز الصلاحيات التي رسمتها لها المادة (103) من دستور جمهورية العراق والأمر التشريعي رقم (65) لسنة 2004".

وأضاف زامل: "حق التمديد هو 5 سنوات، لكن الهيئة أضافت 3 أخرى تعويضاً لهذه الشركات عن فترة سيطرة داعش على عديد من المحافظات والمناطق مقابل مبلغ محتسَب لا مجاناً".

وقال زامل: "الهيئة ملتزمةٌ قرارَ القضاء، وتوجيهات مجلس النواب"، لافتاً إلى أن عملها فنيّ وتقنيّ. وكشف أن "كل التشريعات التي تصدر عنها، وكل الإجراءات التي تصدر منها، في ما يخصّ العقود، تذهب إلى مؤسسات أخرى مثل التخطيط والقضاء أيضاً".

وحسب تعبير المتحدث الرسمي باسم هيئة الإعلام والاتصالات، فقد بررت الهيئة موقفها بخصوص التمديد بالإشارة إلى أن "القرار جاء بناءً على نقاشات ومفاوضات مع الشركات التي طالبت به، وفقاً لما يتضمنه عقد الترخيص بالاعتماد على رؤية الحكومة العراقية في تطوير الشأن الخدماتي والاستثماري، ومبدأ الشفافية والمنافسة العادلة بين المرخصين".

وأشار حسين زامل إلى أن الهيئة "تدعم وجود رخصة لشركة وطنية للاتصالات في العراق، وتدعم التنافس بين الشركات، مؤكداً أن لدى الهيئة مشروعاً ينصّ على أنه على أي شركة أن تسدّد كامل ديونها المتراكمة، لدخول المنافسة ونيل التصريح".

قرار عدم تجديد تراخيص شركات الاتصالات ما زال حبراً على ورق، ولم يدخل حيّز التنفيذ، وسط مطالبات من خبراء قانونين واقتصاديين بمحاربة الفساد في وزارة الاتصالات، والكشف عن الأحزاب السياسية التي تسيطر على قطاع الاتصالات في العراق، واستعادة ضرائب الحكومة، وتتفاقم الاتهامات بين نواب في البرلمان في ظلّ التهرب القانوني وعدم دفع مستحقات التراخيص الرسمية لحكومة بغداد، وهذا ما أشعل فتيل أزمة سياسية واقتصادية بين شركات الاتصالات من جهة وهيئة الإعلام والاتصالات من جهة أخرى، وما زال المواطن العراقي ينتظر الفرج منذ 18 عاماً ويعاني رداءة خدمة الاتصالات وشبكة الإنترنت، ولا حلول منطقية أو إجراءات صارمة على شركات الاتصالات.

TRT عربي