يناقش وزراء دفاع الاتحاد الأوروبي خطة "البوصلة الاستراتيجية" لتشكيل قوة عسكرية مشتركة (Klaus-Dietmar Gabbert/AP)
تابعنا

نقلاً عن وسائل إعلام فرنسية، شرع وزراء دفاع 27 عضواً في الاتحاد الأوروبي في مناقشة مسودة "البوصلة الاستراتيجية" التي يعدّها رئيس خارجية الاتحاد، جوزيب بوريل، من أجل عرض نسختها النهائية عليهم في مارس/آذار السنة القادمة.

وتصف ذات المصادر تلك المناقشات بـ"الحماسية"، مُرجعة ذلك إلى الظروف الجيوسياسية التي تمرّ بها القارة مع أزمة المهاجرين على حدودها الشرقية، التوتر الناشئ بينها وبين حكومة جارتها بيلاروسيا، وتهديدات الاجتياح الروسي لأوكرانيا بحسب ما حذّرت منه الخارجية الأمريكية سابقاً.

بالمقابل تهدف هذه الوثيقة المسرَّبة عن مكتب بورويل إلى خلق "عقيدة دفاع مشترك" أوروبية، تُحيي حلم الجيش الأوروبي الموحّد الذي خالج منذ زمن بعضاً من قادة القارة، وعاد بإلحاح عقب الانسحاب الكارثي من أفغنستان والتوترات المُثارة مع بيلاروسيا وحليفتها موسكو. فيما يبقى هذا الحلم صعب التحقق نظراً للشَّرخ الحاصل بين توجّهات الحكومات الأوروبية، كما الرهانات الاستراتيجية المعقّدة التي يقع فيها.

البوصلة الاستراتيجية

‬‬الاتحاد الأوروبي يفكّر في تشكيل قوّة عسكرية مشتركة قوامها خمسة آلاف فرد بحلول 2025، للتدخّل في حال وقوع مجموعة من الأزمات ودون الاعتماد على الولايات المتحدة. هذا أبرز ما كشفَته مسودَّة خطّة الممثل السامي للشؤون الخارجية الأوروبي، جوزيب بوريل، والتي قال في ديباجتها مبرراً: "أوروبا في خطر وعلينا التحرّك بسرعة".

وأوضح بوريل عبر ذات الوثيقة أنهم يحتاجون "إلى مزيد من السرعة والقوة والمرونة للتعامل مع مهام إدارة مجموعة كاملة من الأزمات العسكرية". مضيفاً: "نحن بحاجة لأن نكون قادرين على التصدّي للتهديدات الوشيكة أو التعامل السريع مع حالة أزمة مثل تنفيذ مهمة إنقاذ وإجلاء أو تنفيذ عملية لخلق استقرار في بيئة معادية".

وفي تفاعل معها، رحَّبت كلٌّ مِن إيطاليا وفرنسا بالخطوة. ووصفت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، الوثيقة بأنّها "وثيقة تمزج بين طموح عالي المستوى ومقترحات واقعية وعمليّة، إنّه توازن جيد". وأوضح وزير الدفاع الإيطالي لورينزو جويريني أنّ هذه القوات لن تكون بديلاً عن حلف الناتو، بل "ستكون مُكمّلة له وستُعزّز العلاقات عبر الأطلسي".

هذا وكشف بوريل في وقت سابق أنّ هذه القوة العسكرية المزمع تشكيلها لن ترتهن بمبدأ التصويت بالإجماع في إقرار تحرّكها، مبرراً الأمر بوجوب ضمان سرعة التحرّك والانتشار. بالمقابل، ترتاب عدد من الدول الأوروبية في هذا الأمر كونه يسحب من بين يديها "حقّ الفيتو" الذي لطالما كان ضامناً للديمقراطية الداخلية للاتحاد.

الحلم الأوروبي القديم الجديد

هذا وتُعدّ فكرة تشكيل جيش أوروبي قديمة بقِدم الاتحاد ذات نفسه، بل وأقدم من ذلك، حيث يرجع طرحها أوّل مرة لعقود عبر مقترح فرنسي سنة 1950 يصبو إلى تشكيل قوّة عسكرية موحّدة بين كلٍّ من بلجيكا وفرنسا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا وألمانيا الغربية. ووقّعت سنة 1952 معاهدة مؤسّسة لـ"مجموعة الدفاع الأوروبية" لم ترَ النور بعدها.

فيما برزت فكرة تشكيل قوة خاصة أوروبية مشتركة، أشبه بما جاءت به "البوصلة الاستراتيجية" في شهر أيار/مايو الماضي، حيث دعت 14 دولة من الاتحاد، على رأسها فرنسا وألمانيا، إلى إنشاء قوات تدخل سريع بعدد خمسة آلاف. وأرجعت تقارير صحفية ذلك إلى حاجة استراتيجية الدفاع الأوروبية إلى بديل لِلندن بعد مغادرتها.

وبات المقترح أكثر إلحاحاً من ذي قبل بعد الانسحاب الأمريكي من أفغنستان، الذي أصاب الأوروبيين بنوع من التشكك إزاء استمرار اعتمادهم على حلف الشمال الأطلسي في الدفاع عنهم. ما عبّر عنه جوزيب بوريل وقتها قائلاً: "أظهرت أفغانستان أنّ هناك ثمناً لأوجه القصور على صعيد استقلالنا الاستراتيجي، والسبيل الوحيد للمضيّ قُدماً هو توحيد قواتنا وتعزيز، ليس فقط قدرتنا، ولكن أيضاً إرادتنا للتحرك".

في المقابل أتى تشكيل حلف "أوكوس" الذي استُثنيت أوروبا منه، مثل "صفعة الغواصات" الفرنسية كجرس، ليس جرس إنذار فحسب، بل تأكيد أنّ الاتحاد صار خارج حسابات أمريكا الدفاعية، ومعه التخوّف مِن مدى جديّتها في الاستجابة لأيّ تهديد قد يطال الدول الأعضاء.

تحديات مشروع صعب التحقق

هذا ولا يخفى على مراقب الشِّقاق الحاصل بين أعضاء الاتحاد الأوروبي المستتر تارة والظاهر تارة أخرى، حول ريادته. فمنذ شهور والعلاقات بين بروكسل ووارسو متوترة تُنذر بخروج البلاد من الاتحاد. وقبلها كادت أزمة اللقاح تُفكّك دول شرق القارة عن الكتلة الأوروبية. وقبلها الصِّدام الشرس حول حزمة الإعانات الأوروبية على أزمة كوفيد-19، وحول أزمة موجة اللاجئين قبلهم جميعاً.

كلّ هذه المحطات رسمت صورة وضع داخلي هشّ للاتحاد الأوروبي، تكلل سنة 2019 بمغادرة بريطانيا التي كانت أهم قوّة داخله. ويُلقي هذا الوضع اليوم بظلاله على نقاشات تشكيل القوة العسكرية المشتركة، طارحة أسئلة صعبة الإجابة حول كيفية قيادتها، وبأمر من ستأتمر؟ وكيفية تمويلها وبأية تكلفة؟ والأهم من ذلك، هل في استطاعة الدول التوصل إلى اتفاق حول كل هذه القضايا؟.

في المقابل، ومع دفع الظروف الراهنة نحو الإسراع في الاتفاق حول تشكيل قوة دفاع أوروبية مشتركة، يبقى نقاشها الراهن مرتهناً بما ستُفرزه المشاورات الألمانية الحكومية، حيث تختلف الأحزاب الثلاثة المشارِكة فيها بشدّة حول مسألة الدفاع، ولم تأتِ ورقة المشاورات على الإفصاح عن أي موقف إزاء جيش مشترك بل فقط التنسيق العسكري بين الدول الأوروبية. بينما يميل كلٌّ من "الخضر" و"الحزب الديمقراطي الليبرالي" إلى القطع مع سياسة ميركل الاستراتيجية فيما يخص ّالعلاقات الخارجية مع روسيا والصّين، وفيما يخصّ دور ألمانيا داخل الاتحاد الأوروبي.

يُضاف إلى كلّ هذا ما قرأ فيه مراقبون القلق الاستراتيجي لحلف الناتو من أن يكون هذا الجيش الأوروبي بديلًا له، وبالتالي تحليق القارة خارج السّرب الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. الأمر الذي دفع وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، إلى طمأنة قيادة الحلف بأنه "لا مخاوف من أداة دفاع أوروبية مشتركة، وأنّ الولايات المتحدة ستستمرّ في الاستفادة من القدرات الدفاعية الأوروبية التي سيقودها الجيش المشترك".

TRT عربي