تابعنا
إن الجرائم الإسرائيلية في القدس تذكّر أهالي مدينة قسنطينة بالجزائر بما فعله اليهود المتطرفون في 12 مايو/أيار 1956، وكأن لسان حالها يخاطب القدس ويقول: "المتطرفون اليهود مروا من هنا".

وقبل أيام أحيت الجزائر "اليوم الوطني للذاكرة" تعبيراً عن المجازر التي وقعت في الثامن من مايو/أيار عام 1945، واستشهد على إثرها الآلاف على يد الفرنسيين، لكن هذا الشهر مليء بمآسي الجزائريين، أبرزها مذبحة قسنطينة التي ارتكبها متطرفون يهود في 12 مايو/أيار 1956 بدعم من الاحتلال الفرنسي آنذاك.

ففي منتصف نهار ذلك اليوم الذي صادف حينها يوم عيد الفطر، ألقى شخص مجهول قنبلة يدوية داخل مقهى بمدينة قسنطينة شرقي الجزائر، ما تسبب في إحداث انفجار نتج عنه إصابة 13 من اليهود، انطلق بعده يهود متطرفون بالمدينة يجوبون الشوارع ويقتلون مئات العزل من أهالي قسنطينة المسلمين، بدعم فرنسي.

وفي هذا الإطار يقول عبد الله الرافعي، محلل سياسي وكاتب صحفي جزائري، لـTRT عربي: "كان اليهود يجوبون الشوارع ويقتلون أهالي المدينة، بعد أن منحهم المستعمر الجنسية الفرنسية، وأدخل بعضهم في صفوف الجيش الفرنسي لمحاربة الجزائريين". ومشيراً إلى تقرير الليبراليين الفرنسيين المنشور في كتاب "الجزائر سنة 1956" للصحفي الفرنسي روبير بارا، الذي أوضح أن قسم حفظ الجثث بمستشفى قسنطينة لم يتسع لجثامين الجزائريين من مختلف الأعمار الذين قُتلوا في ذلك اليوم.

خيوط المؤامرة

ويضيف الرافعي أن موقع "بروش أوريون انفو" الفرنسي نشر في وقت سابق، شهادة أفراهام برازيليا (78 سنة) الذي عمل جاسوساً للموساد بالتعاون مع الاحتلال الفرنسي للجزائر آنذاك. يقول برازيليا: "إن الفاعل الذي استهدف مقهى في قسنطينة لم يكن جزائرياً وإنما كان عنصراً من عناصر فرقته، وطارده حينها أعضاء الفرقة وقتلوه، لتوجِّه بعدها الدعاية اليهودية أصابع الاتهام للجزائريين، ليرد اليهود المتطرفون بمذابح في شوارع قسنطينة".

ويتابع الرافعي سرد الحكاية موضحاً أنه بحسب التقارير فإن برازيليا كانت ترافقه زوجته لترتيب عمليات استخبارية وتنظيم خلايا عمل لمواجهة المقاومة الجزائرية، حتى إنه لإخفاء نشاطه الحقيقي جاسوساً للموساد عمل مدرساً في إحدى مدارس قسنطينة، وأن مهمته حينها كانت تقتضي تدريب وتسليح شبان يهود في مدينة قسنطينة لإخماد شعلة الثوار الجزائريين، وإفشال مقاومتهم للاحتلال الفرنسي.

أشار الرافعي كذلك إلى تقرير سابق للموساد تم نشره في عام 2009، يوضح أن الهدف من عملية استهداف مقهى بقسنطينة كان زرع الرعب في أوساط يهود الجزائر لإجبارهم على المغادرة إلى فلسطين المحتلة لتوطين مزيد من اليهود هناك، وهو ما جرى فعلياً وتم ترحيل يهود الجزائر خلال الفترة ما بين عامي 1956 و1962، بل إن الجاسوس "برازيليا" أكد في شهادته أن ضباطاً وجنوداً في الجيش الفرنسي كانوا تحت قيادة خلايا تابعة للموساد.

المذابح التي ارتكبها اليهود المتطرفون في الجزائر، والمتأمل بمذبحة قسنطينة وإن كانت تمت بأيادٍ يهودية، إلا أن الدعم الفرنسي هو الذي وفَّر لها البيئة الخصبة لاستهداف الجزائريين.

مؤخراً أحيت الجزائر في الثامن من مايو/أيار "اليوم الوطني للذاكرة"، ولا يزال مستمراً مطلب الجزائر باعتراف فرنسا الشامل بالجرائم التي تم ارتكابها خلال فترة الاستعمار الفرنسي، وتقديم الاعتذار عنها وأيضاً التعويضات المناسبة عن هذه الجرائم.

ففي الثامن من مايو/أيار عام 1945 ردت القوات الفرنسية بعنف غير مسبوق على تظاهرة طالبت باستقلال الجزائر، ما تسبب في استشهاد آلاف المتظاهرين قُدّرت أعدادهم بنحو "45 ألف شهيد" في عدة مدن.

وعن المذابح والتعذيب اللذين عانت منهما الجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسي، نشير هنا إلى مذكرات الجنرال في الجيش الفرنسي وقتها بول أوسارس عن عمليات التعذيب بحق الجزائريين، بعدما أورد شهادته على عدد من وقائع القتل والتعذيب، يقول: "لقد فعلت كل هذا من أجل فرنسا". وهو نفس منطق نابليون عندما قال أمام مجلس الدولة بعد انقلاب عام 1799: "أنا أعمل لفائدة البيض لأنني أبيض". وهو كذلك نفس مبرر السياسات التي تقوم بها فرنسا الرسمية حالياً إزاء مسلميها بحجة حماية "قيم الجمهورية".

مذكرات "بول أوسارس" صدرت عام 2001 وجاءت بعنوان "شهادتي حول التعذيب مصالح خاصة في الجزائر"، تضمنت شهادته حول طرق وأساليب التعذيب الفرنسية ضد الجزائريين، ويروي كيف قام بقتل العديد من الجزائريين تحت التعذيب بطرق وحشية ابتكرتها فرنسا لإخضاع ثوار الجزائر، وتضمنت شهادته كيفية قيامه بنفسه بشنق المناضل الجزائري "العربي بن مهيدي"، وكيف قتل المحامي والمناضل الجزائري "علي بومنجل" ليفضح الرواية الفرنسية التي زعمت انتحار بومنجل، وكان أوسارس قد قضى عامين في الجزائر من 1955 حتى 1957، والتعامل الفرنسي مع ثورة الجزائريين للحصول على استقلال بلادهم يكشف كيف كانت تنظر باريس إلى الجزائر باعتبارها مقاطعة فرنسية، وليست بلداً محتلاً من حقه أن ينال استقلاله.

ويبدو أن فرنسا مضت في جرائمها ضد الجزائر حتى بعد الاستقلال، فلاحقاً جرت محاكمة "بول أوسارس" لكن ليس بسبب ارتكابه هذه الجرائم، وإنما لفضحه هذه الممارسات الإجرامية الوحشية للاحتلال الفرنسي في الجزائر، لكن هذه المحاكمة لم تستطع أن تثني "أوسارس" عن شهادته فأصدر كتاباً جديداً بعنوان "لم أقل كل شيء".

بول أوسارس وزملاؤه تم إرسالهم إلى الجزائر بهدف التخلص من جبهة التحرير وتصفيتها، وهو يقول في مذكراته: "لم تكن الشرطة في الميدان مهيئة لمثل هذه المهمات، لذا بدأت حكومتنا بإرسال الأشخاص الذين سيقومون بالتطهير وكنت أحدهم دون شك. وعندما طُلب منا القيام بحفظ الأمن تضمّن الأمر تلميحاً باللجوء إلى الاغتيالات دون محاكمة قضائية، وعندما رأينا في الجيش أن نحصل على تعليمات أكثر وضوحاً كنا ننال ذلك دائماً".

مجازر عديدة ارتكبتها فرنسا بحق الجزائريين خلال فترة احتلالها بلادهم التي امتدت من عام 1830 إلى 1962، تنوعت هذه المجازر ما بين القتل والتعذيب بل وامتدت إلى جعلهم حقل تجارب لقنابلها النووية، فضلاً عن الجزائريين الذين قتلتهم على أراضيها، مجازر لا يمكن أن تُمحى حتى إذا غضت فرنسا الطرف عنها وعزمت على طي صفحة الماضي فإن جماجم الثوار الجزائريين في متحف الإنسان بباريس تبقى شاهدة على هذا التاريخ الأسود.

في قسنطينة تعاونت فرنسا مع اليهود المتطرفين لقتل الجزائريين، وطوال سنوات الاحتلال لم تتوقف المذابح، وحتى الآن لا تزال باريس متمسكة بالنظر إلى المناطق التي احتلتها باعتبارها مستعمرات خاضعة لها، وفي الأراضي المحتلة يواصل اليهود الإسرائيليون مذابحهم بحق الفلسطينيين والمقدسات الإسلامية، وسواء عبر الاحتلال أو السياسات الإقصائية يبدو أن الطرفين متمسكان بأن تظل أيديهما ملطخة بدماء العرب. وليس من المستغرَب الموقف الفرنسي ممَّا يحدث الآن للفلسطينيين من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي.

TRT عربي