شهدت مالي العديد من المظاهرات الشعبية المناهضة لفرنسا (Getty Images)
تابعنا

شهدت منطقة غربي إفريقيا خلال السنوات الماضية موجة من الاحتجاجات الشعبية الغاضبة، التي أعادت مسألة النفوذ الفرنسي في تلك المنطقة إلى قلب الاحتجاجات الواقعية وفي الفضاء الافتراضي، حيث تحول التنديد بسياسات باريس الاستعمارية في المنطقة إلى قاسم مشترك أكبر بين هذه الاحتجاجات على اختلاف بلدانها.

هذا الحراك الاجتماعي السياسي وتداعياته يهدد بتقليص مساحات سيطرة باريس في منطقة اعتبرتها دائماً مجالاً حصرياً للمصالح الحيوية الفرنسية، مستخدمة لاستدامة هذا الواقع أدوات استراتيجية كرست قدرتها على الهيمنة خلف ستار من النخب المحلية.

هيمنة تاريخية

لفهم جذور الغضب الإفريقي يجدر بنا العودة إلى ستينيات القرن الماضي، حين تأسست العلاقة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في القارة السمراء، بما فيها غرب إفريقيا، على ما تُسمى بـ"فرانس أفريك"، التي تدعم بموجبها باريس الأنظمة الناتجة عن التفاوض على إنهاء الاستعمار في مقابل "الولاء" لباريس، بما يعني حيازتها للأفضلية في الشراكات الاقتصادية والسياسية والأمنية.

أتاح هذا لباريس نفوذاً عميقاً لخصه وزير الخارجية الفرنسي لويس دي غرينغود حين أكد عام 1978 أن بلاده "لا يزال بإمكانها، بوجود 500 جندي، تغيير مسار التاريخ" في إفريقيا.

تضمنت هذه الاستراتيجية الفرنسية اتفاقات تتيح لها التدخل العسكري الأمني المباشر، علناً وسراً، لحماية الأنظمة الموالية لها عندما تتعرض للتهديد سواء من الداخل أو الخارج، ورغم أن الإليزيه تخلى عن هذه السياسة لاحقاً بقدر أو آخر، فإنه قد ترسخ في وجدان الأفارقة الارتباط العضوي بين باريس والأنظمة الوظيفية الفاسدة المستبدة التي حكمتهم.

بجانب هذا فرضت فرنسا هيمنتها الاقتصادية على المنطقة ولا تزال باريس تلعب دوراً رئيسياً في الجانب النقدي، إذ يعتبر الفرنك الإفريقي الذي تطبعه باريس عملة معتمدة في مجموعة من دول غرب ووسط إفريقيا، وقد سهل هذا لفرنسا الحصول على تدفقات مستمرة من العائدات النقدية للدول الإفريقية المعنية احتياطياً مودعاً في البنك المركزي الفرنسي غطاءً لهذا الفرنك، كما منحها أفضلية في الحصول على المواد الخام بأسعار تنافسية، والأخطر أنه أفقد الدول المستخدمة له السيطرة على سياساتها النقدية.

وإحكام فرنسا قبضتها على السياسة والاقتصاد أفرغ استقلال مستعمراتها الإفريقية السابقة من كل معانيه، إذ تحول إلى بداية حقبة من السيطرة غير المباشرة عبر النخب السياسية والعسكرية والاقتصادية المهيمنة التي رعتها الدوائر الأمنية في باريس وأمنت استمرارية حكمها، مقابل حصول الأخيرة على القطعة الكبرى من كعكة الاقتصاد حتى كانت فرنسا تملك يوماً ما 30% من حصة السوق الإفريقية.

ويتمتع غرب إفريقيا بثروات باطنية هائلة مع بيئة واعدة بمزيد نتيجة قصور المسوح الجيولوجية التي أجريت حتى الآن، إذ جرى اكتشاف احتياطات كبيرة من الذهب واليورانيوم والنحاس والفوسفات والماس والبوكسيت وخام الحديد والنيكل وغير ذلك.

وهكذا تشير بعض الأرقام إلى مفارقات مذهلة حيث تستولي شركات فرنسية على اليورانيوم من النيجر، رابع منتج لهذه المادة عالمياً، لتلبية نحو 75% من احتياجات فرنسا من الطاقة الكهربائية، في حين يعتمد 80% من سكان النيجر على الحطب للطبخ والإنارة وترزح بلادهم في فقر مروع.

ونتيجة هذه السياسات الفرنسية تكشفها بوضوح التصنيفات الدولية المعنية بالتنمية، إذ تضمنت قائمة الأمم المتحدة حول الدول الأقل نمواً لعام 2017 تسع دول من منطقة الفرنك الإفريقي، في حين يؤكد البنك الدولي أن جميع دول منطقة الفرنك تقريباً تقع ضمن مجموعة الدول الفقيرة المثقلة بالديون.

ربيع إفريقي ثائر على فرنسا

يُربط دوماً بين تداعيات الفشل العسكري الفرنسي في عملية برخان وتفجر الاحتجاجات الشعبية على نفوذ باريس وحلفائها بدءاً من مالي انتقالاً إلى غيرها من دول غرب إفريقيا، وهو ربط على وجاهته ليس كافياً لتفسير بزوغ هذه الظاهرة المركبة والجديدة على الساحة السياسية الإفريقية حجماً وامتداداً وتأثيراً، ولعل التركيز على التحولات التي تعيشها المنطقة على أكثر من صعيد تعين على توضيح الصورة بشكل أكبر.

في هذا السياق يبرز الجانب الديموغرافي حيث مثل الشباب الشريحة الكبرى من المحتجين الذين جابوا شوارع عواصم ومدن غرب إفريقية، في انعكاس للنسبة العالية من هذه الفئة العمرية ضمن مجتمعات بلدانهم، وهؤلاء الغاضبون يحملون فرنسا مسؤولية الفشل متعدد الأوجه والمستويات الذي تعيشه بلادهم، إذ أخفقت النخب "الوطنية" المصنوعة فرنسياً في توفير فرص العمل وتمكين العدالة الاجتماعية وبناء أسس الحكم الرشيد وخلق ظروف تنمية مستدامة.

وبينما تعد قوارب الهجرة غير الشرعية أبلغ تعبير عن يأس الشباب الإفريقي من انسداد الآفاق في أوطانهم، تمثل هذه التظاهرات محاولة لاجتراح أفق جديد تتتجسد فيه طموحات الآباء المؤسسين لحركة التحرر الإفريقي من المستعمرين البيض وعلى رأسهم فرنسا.

بجانب ما سبق يجدر النظر إلى أنه كما أبرزت أحداث الربيع العربي الدور المحوري لشبكات التواصل الاجتماعي في حشد وتعبئة الجماهير، فإننا نجد آثاره ثورة الاتصالات في خلفية الاحتجاجات الإفريقية حيث تبدو المعركة محتدمة على امتلاك ناصية الرأي العام وتوجيهه.

فقد أدى تطور قطاع الإعلام والشبكات الاجتماعية، مستفيداً من النمو المذهل لمعدل انتشار الهواتف المحمولة الذي يقترب من 100٪ في غرب إفريقيا وفقاً لتقرير GSMA Intelligence لعام 2019، إلى خلق ديناميات جديدة لنشر المعلومات، وفضاءات مختلفة استخدمها المؤثرون المحليون لمهاجمة فرنسا معتمدين على قدراتهم على تحريك المشاعر القومية المعادية لباريس.

في إطار الصراع الجيوسياسي الدولي على المنطقة يبدو الدور الروسي فعالاً جداً في الحرب على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تنشط مجموعات فاغنر في اختراق المجتمعات الإفريقية مستهدفة الأعداء الاستراتيجيين في المنطقة كفرنسا، ومروجة لنجاحات موسكو وحلفائها ولا سيما في الشق المتعلق بمكافحة الإرهاب، ومعززة الاتجاهات الشعبوية المضادة للغرب.

وسبق لمنصتي فيسبوك وتويتر أن أعلنتا اكتشاف شبكات روسية تؤدي هذا النوع من النشاطات في إفريقيا من خلال شبكات يديرها متعاقدون محليون أو خبراء روس، وبالنظر إلى شكوى واشنطن من تأثير موسكو على نتائج انتخابات 2016 الرئاسية، يمكننا تقدير الحال في دول لا تملك البنى التحتية الكافية لمقاومة هذا النوع من الاختراق التقني كدول غرب إفريقيا.

مالي والتحول إلى النموذج

تمثل مالي محطة هامة في إطار التحولات التي يشهدها موقع فرنسا في غرب إفريقيا، حيث اتسمت السياسات التي اتبعها قادة الانقلاب الثاني في باماكو (مايو/أيار 2021) تجاه باريس بالوضوح والحدة والتصعيد، فلم يكتفوا بمطالبتها بسحب جنودها من بلادهم بل اتهموها كذلك بالتجسس ودعم مسلحين متشددين.

وشهدت مالي صيف عام 2020 احتجاجات حاشدة على الرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا حليف فرنسا انتهت بإخراجه من السلطة بانقلاب عسكري، ولم تكن محاولة كيتا التلاعب بالانتخابات وحدها مثار حنق الماليين على فرنسا، حيث زاد السخط المحلي على سياسات باريس نتيجة فشلها في القضاء على التنظيمات المسلحة في مالي رغم إطلاقها عمليات عسكرية متتابعة كسيرفال وبرخان، إذ انتهت إلى مفارقة أن المسلحين الذين كانوا معزولين في شمال مالي عند بدء التدخل الفرنسي توسعوا داخل البلاد وامتدوا إلى الدول المجاورة أيضاً مع نهايته!

هذا السخط وجد ترجمته في إجراءات غير مسبوقة، بحق المستعمر السابق، اتخذها قادة الانقلاب الشباب (مرة أخرى) ولقيت ترحيباً على نطاقات شعبية واسعة في غرب إفريقيا تعبيراً عن خطوة متقدمة للتحرر من الاستعمار الفرنسي، وتكريساً لقدرة الأفارقة على حماية مصالحهم من خلال استغلال الصراعات الجيوسياسية الدولية والتحالف مع قوى دولية جديدة مثلتها موسكو في هذه الحال.

ولذا فمن الأهمية بمكان النظر إلى مالي باعتبارها تحولت تدريجياً في وجدان كثير من أبناء المنطقة إلى نموذج ملهم لخصه المحتجون في نيامي عاصمة النيجر وهم يهتفون "نريد أن نكون أحراراً مثل مالي"، في حين شهدت مدن أخرى في النيجر وتشاد وبوركينا فاسو إحراق العلم الفرنسي ومهاجمة رموز ومنشآت تتبع للحكومة أو للشركات الفرنسية.

وبالتالي فإن نجحت القيادة المالية في حربها على الحركات المسلحة وفي إحداث نقلات جدية بالبلاد، فإن ذلك سيضع باريس أمام حقيقة إمكانية انتقال الرفض الشعبي لها، في مناطق أخرى في غرب إفريقيا، إلى سياسات دولة تعصف بما تبقى من نفوذها في ما كان يوماً حديقتها الخلفية.



TRT عربي