قوات فرنسية مشاركة في عملية بارخان.  (Ludovic Marin/AFP)
تابعنا

يوماً بعد يوم يبرز جلياً الفشل الفرنسي في تحقيق أهداف حملته في الساحل، والتي رُفع لها، أول ما انطلقت، شعار تجفيف منابع الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء. وبعد سبع سنوات من قيادتها عملية بارخان، لا تزال قواتها تتلقى الهجمات القاتلة في أنحاء المنطقة كافة، موقِعة ضحايا في صفوفها.

فيما الخطر بالنسبة للفرنسيين لا يأتي فقط من تلك الجماعات المسلحة، بل في فقدانها التحالف السياسي والعسكري الذي على أساسه شنت تلك الحملة. إذ يزداد الشقاق القائم بينها وبين الحكومة المالية، التي أصبحت تهدد بصريح العبارة باستهداف الطائرات العسكرية الفرنسية إذا اخترقت أجواءها ثانياً.

كما فقدت أيضاً أكثر شركائها الأوروبيين المقربين في العملية، فأصبحت حكومات كل من ألمانيا والسويد والاتحاد الأوروبي تشكك في نجاعة استمرار مشاركتها هناك، وتلوح بقرب انسحابها من المنطقة.

مقابل كل هذه المتاعب يواجه الفرنسيين في الساحل على وجه العموم، وفي مالي بشكل أخص، تحدٍ أكبر هو تعزيز روسيا نفوذها السياسي هناك عبر توطيد الكرملين علاقاته مع تلك البلدان، وعسكرياً عبر مرتزقة فاغنر المقربين منه. ما قد ينتهي بسقوط تلك المنطقة في يد الروس، وطرد الوجود التاريخي الفرنسي منها.

هجمات قاتلة وتهديد للطائرات

سبع سنوات عن انطلاق عملية بارخان، التي تقودها فرنسا على رأس تحالف من أجل محاربة الإرهاب في منطقة الساحل، لا تزال القوات الفرنسية تتلقى الهجمات القاتلة ما يفشي فشل قواتها في تحقيق مكاسب على الأرض طوال حربها هناك.

آخر تلك الهجمات كانت يوم السبت، إذ استهدف مسلحون معسكراً لقوات عملية برخان في مدينة غاو شمالي مالي بقذائف هاون، راح ضحيته قتيل واحد من القوات الفرنسية. وأكد الإليزيه، في بيان له، مقتل البريغادير (العميد) ألكسندر مارتن من فوج المدفعية الـ54 لهييريس.

وشدد البيان على "تصميم فرنسا على متابعة مكافحة الإرهاب في المنطقة إلى جانب شركائها". بالمقابل هي ثاني هجمة تستهدف قواتها في أسبوع واحد، بعد انفجار عبوة ناسفة لدى مرور مركبة تابعة لها في بوركينا فاسو، يوم الثلاثاء، ما خلف إصابة أربعة جنود فرنسيين.

وإضافة إلى هذا التهديد الكبير، يوجد مأزق آخر يواجهه الوجود الفرنسي بمالي، هو الشقاق بينه وبين السلطات الحاكمة في البلاد، الذي بلغ إلى حد تهديد باماكو باستهداف الطائرات الفرنسية إن هي اخترقت أجواءها.

هذا ما أعلنه، يوم الثلاثاء 11 يناير/كانون الثاني، بيان للناطق باسم الحكومة المالية، العقيد عبد الله مايغا، الذي أدان عبور طائرة عسكرية فرنسية أجواء بلاده محلقة من العاصمة الإيفوارية أبيدجان إلى مدينة غاو شمال مالي. قائلًا: "السلطات المالية لن تتحمل أي مسؤولية عن المخاطر التي قد يتعرض لها مرتكبو هذه الممارسات في حال حدوث انتهاك جديد للمجال الجوي المالي".

نزيف الحلفاء

وزادت الحكومة العسكرية في مالي رسائلها المعادية للوجود الفرنسي بالبلاد. رسائل يرافقها زخم شعبي تمثل في مظاهرات حاشدة مناهضة لباريس، ومنددة بقرار العقوبات التي فرضها حلفاؤها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) على باماكو.

بدوره اتهم رئيس الوزراء المؤقت تشوغويل كوكالا مايغا فرنسا باستخدام إيكواس أداة لتصفية حسابات أخرى، وأشار إلى احتمال مراجعة اتفاقيات الدفاع التي تربط باريس وباماكو. وقال: "نريد مراجعة الاتفاقات غير المتوازنة التي تجعلنا دولة لا تستطيع حتى التحليق فوق أراضيها من دون إذن من فرنسا".

وأكد وزير الخارجية المالي عبدولاي ديوب، في تصريح له يوم الثلاثاء لـفرانس 24، أن بلاده طلبت رسمياً من فرنسا إعادة النظر في معاهدة الدفاع التي تربط البلدين. وأورد مصدر دبلوماسي فرنسي الاثنين: "تلقينا طلباً من مالي (في هذا الصدد) ونحن في خضم دراسته".

فيما لا يقف نزيف حلفاء فرنسا في مالي عند هذا الحد، بل تتحدث تقارير إعلامية عن جدية حديث الفرقاء الأوروبيين في سحب قواتهم المشاركة في العمليات القتالية هناك.

إذ تفكر برلين بتخفيظ قواتها البالغة 1100 جندي ألماني والتي تشارك في تدريب الجنود الماليين بقاعدة غاو، كما أعلنت الحكومة في 14 يناير/كانون الثاني رغبتها في إنهاء مشاركتها في القوات الخاصة الأوروبية (تاكوبا) في مالي.

ويسود الاتحاد الأوروبي قلق من الصدام مع قوات فاغنر الروسية في مالي، كما انتقال القوات التي يدربها في البلاد إلى يد الكرملين، وبالتالي تضيع كل جهوده المبذولة في هذا الصدد كما جرى سابقاً في جمهورية إفريقيا الوسطى. وناقش اجتماع وزراء دفاع الاتحاد، ثم اجتماع وزراء خارجيته، مسألة استمرار التزام القوات الأوروبية تأدية مهامها في مالي.

ماذا يعني خسارة فرنسا نفوذها التاريخي في مالي؟

بمقابل التقهقر الفرنسي في مالي يأتي النفوذ الروسي هناك ليعوض الفراغ. هذا ما تؤكده تقارير دولية عدة، آخرها ما أعلنه رئيس القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا، الجنرال ستيفن تاونسند، في مقابلة أجرتها معه إذاعة صوت أمريكا، فقال: "فاغنر في مالي (...) ونعتقد أنهم بضع مئات الآن، ينتشرون بدعم من الجيش الروسي وتنقلهم طائرات تابعة لسلاح الجو الروسي".

نفس الأمر أكده الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، خلال مؤتمر صحفي قائلاً: "مجموعة فاغنر موجودة في مالي". في وقت لا تزال الحكومة العسكرية بباماكو تنفي الأمر، وهي التي اعتلت السلطة عن طريق انقلاب عسكري، وقررت مؤخراً تمديد بقائها لمدة خمس سنوات أخرى.

وتهدد هذه الأوضاع بتكرار نفس سيناريو إفريقيا الوسطى بمالي، حيث تعدى الوجود الروسي بها تدريب جيش البلاد إلى التغلغل في مفاصل الدولة الإفريقية الفقيرة اقتصادياً والغنية بالموارد الطبيعية. إذ أشارت تقارير عديدة إلى تمركز قوات فاغنر في محيط منشآت تعدين الذهب والماس واليورانيوم التي تزخر بها أراضي البلاد.

من الناحية الاستراتيجية، سقوط مالي في دائرة النفوذ الروسي يعزز تمدده على طول الشريط من القرن الإفريقي نحو وسط إفريقيا مروراً بالساحل، في منطقة تزخر بالموارد الطبيعية والبشرية، وتنفتح على واجهتين بحريتين من أهم خطوط التجارة الدولية، الإطلالة على مضيق باب المندب ومنه إلى البحر الأحمر، وكذا الحصول من الجهة الأخرى على منفذ للمحيط الأطلسي.

TRT عربي