تابعنا
تميل السياسة الفرنسية تجاه سوريا في جميع المحطات التاريخية، ومنذ اللحظة الأولى لاستعمارها وفرض الانتداب عليها، إلى زرع نزعات الانفصال والتقسيم وتشجيعها في هذا البلد على أسس متنوعة.

"لا مانع لدي من أن يساعد أي أحد في حماية الأكراد (YPG) في سوريا... حتى لو كان نابليون بونابرت"، عبارة قالها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، في سياق تبرير قراره سحب قواته من هذا البلد، وعلى الرغم من أنه ذكر الصين وروسيا أيضاً، فقد تعمد ذكر نابليون، مؤسس الجمهورية الفرنسية وصاحب السجل الاستعماري الكبير، في إشارة مبطنة إلى معارضة الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون الشديدة لسحب القوات، لما يمثله من تخلٍّ عن المنظمة الانفصالية.

ربما لم يقصد ترمب من ذكر نابليون سوى بعض السخرية، إلا أنه أجرى من حيث لا يدري مقارنة دقيقة بين سياسات ماكرون وأسلافه الذين انتهجوا حيال سوريا سياسات تقسيم وتجزئة على أسس طائفية وعرقية. فماكرون يدافع بشراسة عن تنظيم YPG الإرهابي الذي يسعى لتقسيم سوريا، مظهراً استعداده للدخول في صدام مع دولة بحجم تركيا العضو والحليف لبلاده في الناتو، في سبيل حماية هذا التنظيم، فيما لم يكن أسلافه أفضل حالاً في إدارتهم للعلاقة مع سوريا أثناء احتلالها وبعده.

تميل السياسة الفرنسية تجاه سوريا في جميع المحطات التاريخية، ومنذ اللحظة الأولى لاستعمارها وفرض الانتداب عليها، إلى زرع نزعات الانفصال والتقسيم وتشجيعها في هذا البلد على أسس متنوعة، ولو لم يوجد نزاع حقيقي تنتج عنه مثل هذه المطالب.

منذ إعلان فرنسا عام 1920 فرض انتدابها على سوريا، عمدت إلى إعلان قيام 5 دويلات على أسس مناطقية وإثنية وطائفية، وهي حلب ودمشق وجبل الدروز (السويداء حالياً) وجبل العلويين (اللاذقية وطرطوس) ودولة لبنان الكبير.

وتحت الضغط ضمت قيادة الاستعمار الفرنسي دول دمشق وحلب والعلويين عام 1923 تحت اسم "الاتحاد السوري" لتسهيل إدارتها، ثم عادت لتعلن قيام "دولة سوريا" بين دمشق وحلب عام 1924، وأبقت على دولتي العلويين والدروز مستقلتين حتى عام 1936 قبل أن تعلن ضمهما إلى الدولة السورية الموحدة.

استعمار استيطاني وإثني

يوصف الاستعمار الفرنسي في الدراسات الحديثة، بأنه استعمار استيطاني وإثني، وفقاً لطالب الدغيم، الباحث المتخصص في التاريخ السوري المعاصر، الذي أكد أن الدبلوماسية الفرنسية عمدت خلال اتفاقات المحاصصة بين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى إلى سياسة التفرقة بين المجموعات السكانية داخل البلاد التي انتدبت عليها، وبخاصة بلاد الشام، لتسهل عملية إخضاعها وإدارتها.

ويضيف الدغيم، في حديث لـTRT عربي أن فرنسا "اهتمت لهذا السبب بالخصوصيات الدينية والاجتماعية للجماعات وبعباداتها وزعاماتها المحلية وأجرت عشرات الدراسات الكشفية حولها".

وفي دليل على نوايا فرنسا فرض التجزئة على سوريا منذ اللحظات الأولى لاحتلالها، يشير الدغيم إلى برقية سرية بتاريخ 6 أغسطس/آب 1920 من الرئيس ميلران إلى الجنرال غورو تحمل عنوان: "مخطط لتنظيم الانتداب الفرنسي في سوريا"، ويقترح فيها صيغة بديلة عن مملكة فيصل، وهي سلسلة دول مستقلة جمهورية الشكل تتناسب مع تنوع الديانات والحضارات، وتتحد في فيدرالية تحت السلطة العليا للمفوض الفرنسي. واقترح ميلران عدد كيانات كبير يصل إلى 24 مع إعطاء لبنان استقلالية خاصة.

التراجع تحت الضغط

ويحيل الباحث السوري أسباب التراجع الفرنسي التدريجي عن التقسيم والتجزئة في البلد إلى بدء تشكل بيئة رافضة، في حين ارتفعت عشرات العرائض من الأعيان وتحركت القوى الشعبية في بعض المناطق (مجموعات مدنية سنية ومجموعات ريفية جبلية) للمطالبة بالوحدة السورية أو الاتحاد السوري.

وذكر الباحث السوري من بين أسباب التراجع أيضاً "تسهيل عمل الإدارة الانتدابية وليكون التنقل بين مناطقها أكثر مرونة ويسراً، في حين رأت الإدارة السامية الفرنسية أن من المصلحة العليا عزل لبنان في دولة واحدة وكذلك منطقة الساحل (العلويين) لأن الحاضنة كان تؤيد هذا العزل".

تغذية الطائفية

وبعد استقلال البلاد عن الانتداب الفرنسي عام 1946، ومع خروج القوات العسكرية الفرنسية، مرت سوريا بمراحل متقلبة من الاستقرار والاضطراب السياسيَّين، نتيجة الانقلابات العسكرية المتكررة التي نُسب بعضها إلى نفوذ فرنسا الذي واصل حضوره على المستويين السياسي والعسكري، وصولاً إلى انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1963 لتدخل البلاد مرحلة جديدة عنوانها الشمولية والديكتاتورية الحزبية.

ومع تسلُّم حافظ الأسد مقاليد الحكم بانقلابه العسكري عام 1970، وتشكل نظامه الذي ألحق دماراً هائلاً بالبنية الاجتماعية والوحدة الوطنية، نتيجة سياساته التمييزية الأقلوية، يُطرح سؤال عن دور فرنسا في صياغة هذا النظام الذي استمر في حكم البلاد قرابة نصف قرن؟

يقول الباحث المتخصص في التاريخ السوري المعاصر طالب الدغيم: "يمكن القول إن فرنسا كانت تعمل على تغذية النزعة الطائفية داخل مؤسسات السلطة والمجتمع والجيش، ودعمت الطائفة العلوية داخل المؤسسات وجيش الشرق الذي كان جيشاً أقلوياً بامتياز"، مستدركاً بالقول: "الحالة السياسية والثقافية العامة في فترة ما بعد الاستقلال لا تسمح لنا بالجزم بأن عائلة الأسد هي صناعة فرنسية، ولكن يمكن القول بأن انخراط العلويين في الحزب القومي الاجتماعي السوري ودورهم في جيوش فرنسا، ودعم جمال عبد الناصر للجنة العسكرية بعد عودتها من القاهرة عام 1963 (إبان مرحلة الانفصال سوريا عن مصر) أسباب مكّنت الطائفة العلوية من الوصول إلى السلطة بالتحالف مع البعثيين".

دعم الأسد الابن

من جهته، لا يتفق سنان حتاحت، وهو باحث سياسي أول في منتدى الشرق، مع الرأي القائل بأن وصول حافظ الأسد إلى السلطة كان بدعم فرنسي، إلا أنه اعتبر أن "أول اتصال وتقارب بين نظام الأسد وفرنسا حدث أثناء الحرب الأهلية في لبنان، التي اندلعت عام 1976، وذلك بسبب رغبة فرنسا في توفير الحماية للمارونيين، وهو ما أدركه حافظ الأسد وحاول اللعب عليه".

ويقول حتاحت، في حديث مع TRT عربي، إن "الأسد تمتع بعلاقة مميزة مع الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، لأن الأخير كان يعتقد أنه يمكن الاعتماد على الديكتاتوريين المروَّضين لكسر الهيمنة الأمريكية". ويضيف: "كان لفكرة تولي بشار الأسد بعد أبيه دعم من شيراك، لأنه كان ينظر إليه بوصفه شاباً يمكن أن يجري إصلاحات من دون أن يُدخل البلاد في الفوضى، وذلك قبل أن تقع جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري 2005، التي أدت إلى انقلاب شيراك على بشار الأسد".

وفي مؤشر على مفتاحية الدعم الفرنسي المقدم إلى نظام بشار الأسد، فقد أشار حتاحت إلى أن "أقوى دعم دبلوماسي فرنسي لنظام الأسد كان في أيام الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، الذي حقق انفتاحاً بين الجانبين بعد أزمة اغتيال الحريري، إذ استقبل ساركوزي الأسد في الإليزيه، وكان عراب إعادة تطبيق العلاقات بين النظام والاتحاد الأوروبي، وأُبرمت نتيجة ذلك اتفاقيات، وإن كان ساركوزي مستعداً للانقلاب على الأسد بعد اندلاع الثورة".

دعم الانفصاليين

بُعيد اندلاع الثورة السورية عام 2011، اتخذت فرنسا بقيادة ساركوزي موقفاً متقدماً من نظام الأسد، وشاركت إلى جانب تركيا وعدد من الدول الداعمة لتطلعات الشعب السوري في تقديم الدعم له على مستويات عدة، إلا أنها سرعان ما عادت إلى سابق عهدها في التعامل مع سوريا كمستعمرة سابقة، وانتهجت سياسات لا تصب في مصلحة الشعب.

وشيئاً فشيئاً، ومع ظهور تنظيم داعش، تحولت اهتمامات فرنسا من مناهضة جرائم نظام الأسد في حق شعبه والمطالبة برحيله، إلى دعم نسخته المصغرة في منطقة الجزيرة السورية، الممثلة في تنظيم وحدات حماية الشعب الانفصالي YPG الإرهابي، بذريعة محاربة داعش، على الرغم من أن الأسد هو الذي دعم YPG الإرهابي في البداية، ومنحه السيطرة على بعض المدن والبلدات في شمالي سوريا وشمالي شرقيها، لتقوم بالنيابة عنه بمهمة القضاء على فاعليات الثورة، لا سيما في الأوساط الكردية.

وحول هذا التحول الفرنسي، يقول الباحث السياسي سنان حتاحت إن فرنسا برئاسة الرئيس السابق فرانسوا هولاند، الذي خلف ساركوزي، كانت في البداية "من أكثر الداعمين هي وتركيا لخيار التغيير في سوريا".

ويضيف: "لكن فرنسا بدأت بعد ذلك بدعم YPG الإرهابي، وقام هولاند باستقبال مقاتلات من التنظيم كجزء من ركوب دعاية محاربة الإرهاب والتعويض عن حقيقة وجود عدد كبير من مواطنيه في صفوف داعش".

ويرى حتاحت أن "دعم فرنسا لـYPG الإرهابي يأتي في جزء منه متابعة للقرار الأمريكي، ومع شعورهم بتغير التوجه الأمريكي في سوريا حاولوا ملء الفراغ على المستوى السياسي والحصول على دور أبرز، ولكن مع اتخاذ واشنطن قرارها بالانسحاب اضطر الفرنسيون إلى الانسحاب هم أيضاً. كان هناك 450 جندياً والآن تراجع هذا العدد إلى 50".

ويعد دعم فرنسا لـYPG الإرهابي، في جزء كبير منه حالياً، حسب حتاحت، نوعاً من أنواع النكاية في تركيا والبحث عن دور متميز ومتمايز عن بقية أوروبا فيما يتعلق بهذا الموضوع.

TRT عربي