عرض عسكري للجيش الصربي بحضور رئيس الوزراء الروسي عام 2019. (Darko Vojinovic/AP)
تابعنا

يعود شبح الحرب ليهدد مسلمي البوسنة مجدداً بعد ما يقارب ثلاثين عاماً على مجازر ارتكبها الصرب بحقهم، وخلفت نحو 200 ألف قتيل وفق تقديرات الأمم المتحدة، وتخللتها ممارسات اغتصاب وعنف ما زالت آثارها الدامية باقية حتى اليوم.

وبينما لم يكن خافياً الدعم العسكري الروسي السابق لصربيا في أثناء الحرب، فإن دلائله تبدو أشد وضوحاً هذه المرة، وسط التطورات الأخيرة التي وصفها محللون بإعلان انفصال للصرب.

فنفذ الزعيم الصربي ميلوراد دوديك أولى خطوات تهديداته الانفصالية، عبر موافقة برلمان "جمهورية صربسكا" الذي يمثل صرب البوسنة، على سحب موظفيه من أهم ثلاث مؤسسات فيدرالية وهي الجيش والقضاء والضرائب، وفي حال مصادقة الجمعية الوطنية على القرار، سيدخل حيز التنفيذ.

ومنذ انتهاء الحرب عام 1995، انقسم هذا البلد الواقع في منطقة البلقان إلى مجموعتين: الفيدرالية الكرواتية البوسنية من جهة، وجمهورية صربسكا "للصرب" من جهة ثانية، وتتمتع كل منهما بحكم شبه ذاتي، فيما تجمعهما دولة مركزية ضعيفة تمثلها رئاسة جماعية ثلاثية الأطراف.

صربيا ساحة الصراع الروسي الغربي

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال زيارته الرسمية لصربيا عام 2019: "لقد قلنا مراراً إننا ننظر إلى توسع حلف الناتو على أنه من بقايا حقبة الحرب الباردة، وأنه استراتيجية عسكرية وسياسية غير مستنيرة ومدمرة تقود إلى رسم خطوط تقسيم جديدة داخل القارة الأوروبية وتقوِّض الثقة وتزيد من منسوب التوتر في أوروبا"، وفق حديثه لصحيفة "فتشيرني نوفوستي" الصربية.

يعكس ذلك التصريح طبيعة الصراع الذي تشهده منطقة غرب البلقان، بين روسيا من جهة، والقوى الغربية الممثلة في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية.

فقد انتهج بوتين سياسة خارجية تحاول استغلال نفوذها القديم لاستعادة مكانتها كقوة عالمية فاعلة، وقد أصبح ذلك واضحاً حينما ضم الرئيس الروسي شبه جزيرة القرم وأعلنها "جزءاً من روسيا إلى الأبد"، منذ عام 2014.

وفي ظل ذلك الصراع على استعادة المكانة القديمة تعتبر صربيا، الحليف التاريخي، من أهم الأوراق الروسية في غرب البلقان.

ولا يخفي الطرفان خصوصية العلاقة "السلافية الأرثوذوكسية" التي تجمعهما، والتي تتجلى في الكثير من المواقف مثل دعم موسكو لبلغراد حول قضية كوسوفو التي لم يوافق الصرب على استقلالها، أو تمسك صربيا برفض توقيع عقوبات غربية على روسيا.

ففي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أكد وزير داخلية صربيا ألكسندر فولين على نقطتين جوهريتين بالنسبة لروسيا، حينما قال: "لن تدعم صربيا أبداً العقوبات ضد روسيا أو الهستيريا المعادية لروسيا، ولن نصبح عضواً في الناتو"، وتابع مشدداً "لقد أظهر التاريخ أن كل فوبيا تجاه روسيا هي فوبيا تجاه صربيا أيضاً".

وفي الوقت الذي يسعى فيه حلف الناتو لضمان ولاء صربيا عبر محاولة مد نفوذه العسكري عليها، تحرص القيادة الصربية على تذكيره بمواقف تاريخية تحول دون ذلك، ففي مارس/آذار الماضي أكد الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش أن بلاده "لن تنسى أبداً عدوان حلف الناتو عام 1999"، مشيراً إلى العملية العسكرية التي أعلن الناتو هدفها بأنه "منع إبادة السكان الألبان في إقليم كوسوفو"، فيما اعتبرتها صربيا "عدوان لانتزاع جزء من أراضيها".

مليشيا الشرف الصربي والدعم الروسي الخفي


في الوقت الذي لا تصرّح فيه روسيا بدعمها انفصال صربيا، إلا أنها تدعم مساعيها الانفصالية بطرق ملتوية تجنبّها مواجهة مباشرة مع الغرب.

فعلّق سفير روسيا في الاتحاد الأوروبي فلاديمير تشيزوف، عقب قرارات البرلمان الصربي الأخيرة، قائلاً: "أعتقد أن البوسنة بحاجة إلى التخلص من هذا الإشراف (الأوروبي) الخانق مرة واحدة وإلى الأبد"، مشدداً على ضرورة إنهاء وظيفة الممثل السامي الذي عُيّن منذ عام 1995 للإشراف على تنفيذ اتفاقية دايتون للسلام التي أنهت الحرب.

ففي يوليو/تموز الماضي، أقر الممثل السامي السابق فالنتين إنزكو، تعديلات قانونية تحظر إنكار الإبادة الجماعية ومذبحة سربرنيتسا التي وقعت بحق مسلمي البوسنة، وتعاقب من ينكرها بالسجن مدة تصل إلى 5 سنوات.

وهو ما أثار غضب الزعيم الانفصالي دوديك الذي رفض القانون قائلاً: "إن جمهورية صربسكا ترفض القانون الجديد، وما يسمى الإبادة الجماعية لم يحدث، ولا يجب على الصرب القبول بذلك أيضاً"، فيما اعتبره مراقبون القشة الأخيرة التي عجلّت بالمساعي الانفصالية.

دعم روسيا الخفي لانفصال صربيا لا يقتصر على الجانب السياسي، ففي عام 2018 كشف تحقيق لصحيفة الغارديان نقلاً عن الإعلام البوسني، أن روسيا درّبت مرتزقة استقطبتهم من عالم المجرمين في صربيا لدعم الانفصاليين.

وقد نظمت تلك المليشيات التي يطلق عليها "الشرف الصربي"، وخضعت للتدريب في "مركز إنساني" بتمويل روسي، عرضاً عسكرياً علنياً في مدينة بانيا لوكا الكبرى في البوسنة، فيما كشفت وثيقة سرية أن مساعدي الزعيم الصربي دوديك ناقشوا أهداف تلك المليشيا، وقد تضمنت تدخلاً محتملاً إذا ما سعت المعارضة لإعاقة السلطات عن القرارات الانفصالية.

وبالإضافة إلى الأهداف السياسية والعسكرية المشتركة بين روسيا وصربيا، توجد عوامل اقتصادية أخرى تجعل ذلك الدعم أكثر إلحاحاً، إذ تعتبر روسيا المورد الأساسي للنفط والغاز في المنطقة، وتعتمد عليها دول البلقان بشكل أساسي، وتتمتع شركات الطاقة الروسية الخاصة والمملوكة للدولة بحصص ضخمة في قطاعات الطاقة داخل العديد من دول البلقان.

تدفع تلك الأسباب جميعها روسيا، للمقاتلة باستماتة من أجل منع النفوذ الغربي من التمدد في تلك المنطقة، وضمان عدم تعارضه مع نفوذها الذي ترغب في توسيعه، ويبدو أن انفصال حليفها الاستراتيجي صربيا، إذا نُفِّذ، أفضل طريق لذلك.

TRT عربي - وكالات
الأكثر تداولاً