لا تكاد تُذكر العلاقات الأذربيجانية التركية دون ذكر العبارة المشهورة "شعب واحد في دولتين"، التي تكثف خصوصية ومكانة العلاقة ما بين الشعبين الأذربيجاني والتركي وحكومات البلدين.
وتعود هذه الخصوصية إلى التقارب العرقي والثقافي والجغرافي بين الشعبين؛ فتحت مظلة الشعوب التركية؛ يعد سكان أذربيجان والأتراك الأقرب من ناحية الدم، كما أن لغة أتراك أذربيجان هي الأقرب إلى لغة أتراك الأناضول، ويضاف إلى ذلك قربهم الجغرافي الذي حافظ على تواصلهم التاريخي.
ظهرت معالم التقارب في عدة مناسبات أهمها "اتفاقية باتومي" 1918 التي وُقِّعت بعد أقل من شهر على استقلال دولة أذربيجان عن الإمبراطورية الروسية مع الدولة العثمانية، ونصَّت الاتفاقية في أحد بنودها على التعاون العسكري بين البلدين.
وبعد اشتداد الحرب مع أرمينيا المدعومة من البريطانيين والبلاشفة، طلبت أذربيجان مساعدة العثمانيين الذين شكَّلوا جيش القوقاز الإسلامي تحت قيادة نوري باشا، شقيق وزير الحربية في ذلك الوقت أنور باشا.
وأسهمت جهود جيش القوقاز الإسلامي الذي ضم إلى جوار الأتراك متطوعين من مسلمي القوقاز، في الانتصار في معركة باكو 1918 وتحرير المدينة التي أصبحت عاصمة لأذربيجان الحالية، والحفاظ على وجود الأتراك في تلك المنطقة من القوقاز.
وعلى الرغم من وقوع أذربيجان تحت الاحتلال السوفييتي، فإن الشعبين حافظا على علاقتهما المميزة، فكانت تركيا أول دولة تعترف بجمهورية أذربيجان بعد استقلالها عن الاتحاد السوفييتي، وأصبح من العُرف أن تكون باكو من إحدى أولى الوجهات الخارجية لأي رئيس جمهورية تركي، فيما زار رؤساء أذربيجان بين عامي 1994 و2022 تركيا أكثر من 42 زيارة معلنة.
وحدة المصير الأذربيجانية-التركية، ظهرت في حرب تحرير إقليم قره باغ، ومشاريعهم وتطلعاتهم من أجل المستقبل والريادة في منطقة القوقاز.
أخوّة تختبرها الشدائد
بعد الاحتلال الأرميني لإقليم قره باغ في منتصف تسعينيات القرن الماضي، أغلقت تركيا الحدود مع أرمينيا وربطت أي تحسن في العلاقات بينهما بإنهاء احتلالها للإقليم الأذربيجاني.
ووقَّعت تركيا وأذربيجان منذ التسعينيات سلسلة من اتفاقيات ومعاهدات التعاون العسكري والأمني، جرى خلالها نقل التجارب والخبرات وتعليم وتخريج الكوادر العسكرية؛ فمنذ عام 1996 التحق أكثر من 10 آلاف عسكري أذربيجاني بدورات تدريبية في تركيا.
كما شارك الجيشان في مناورات عسكرية مشتركة، كما هو الحال في مناورات "EFES" ومناورات " عنقاء الأناضول"، وتدريبات الشتاء، و"نجم الأناضول"... وغيرها من المناورات والبرامج التدريبية التي شملت في بعض الأحيان دولاً أخرى في المنطقة.
وبلغ التعاون العسكري ذروته عام 2010، مع توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية والتعاون المتبادل، التي نصَّت في أحد بنودها على تسخير أي دولة كل إمكاناتها لمساعدة الدولة الأخرى التي تتعرض للاعتداء، وفي ذات العام جرى توقيع "آلية مجلس التعاون الاستراتيجي".
أعطت هذه الاتفاقيات دفعة أخرى للتعاون بين الدولتين، الذي أخذ جانباً أكثر جدية وشملت مجالات متنوعة في الجوانب المختلفة وعلى رأسها العسكري.
وجاءت حرب تحرير إقليم قره باغ في سبتمبر/أيلول 2020، لتُظهر نتائج التعاون والإعداد المشترك، فعلى مدار أيام الحرب الـ44، أظهرت الأسلحة التركية، وتحديداً المسيّرات، تفوقاً واضحاً مكَّن الجيش الأذربيجاني من التفوق على أسلحة وأنظمة الدفاع الجوي الأرمينية.
كما لعبت خبرات الجيش التركي التي اكتسبها في ميادين القتال في دعم وإسناد المجهود الأذربيجاني في العمليات العسكرية ضد الاحتلال الأرميني، ولم يقتصر الدعم التركي على الجانب العسكري والأمني بل تعداه إلى السياسي والدبلوماسي، إذ لعبت تركيا دوراً محورياً في ترجمة الانتصار العسكري إلى انتصار سياسي.
شراكة من أجل المستقبل
امتدت مجالات التعاون الأذربيجانية-التركية إلى كل المجالات الاقتصادية والتعليمية والثقافية، فمنذ تأسيس دولة أذربيجان الحديثة نشطت منظمات تركية عدة في العمل في الدولة الناشئة التي لعبت تركيا ومؤسساتها دوراً مهماً في مجال إعادة بناء وتأهيل البلاد.
وكما في المجال العسكري، ظهر تطور العلاقات الثنائية ما بين البلدين في المجالات الاستراتيجية وتحديداً مجال الطاقة ونقل الغاز والبترول إلى الأسواق الأوروبية.
وشكَّل تعاون تركيا وأذربيجان مفتاحاً لإيصال الغاز والبترول إلى الأسواق الأوروبية عبر أنابيب النقل التي جرى تشييدها من أذربيجان وعبر جورجيا وصولاً إلى تركيا ومنها إلى الأسواق الأوروبية والعالمية.
بدأت هذه المشاريع مع خط نقل البترول عبر أنابيب "باكو-تبليسي-جيهان" الذي دخل الخدمة الفعلية عام 2008. كما جرى إطلاق مشروع خط أنابيب الغاز عبر الأناضول "تاناب" الذي يعد من أهم المشاريع الاستراتيجية المشتركة بين البلدين الذي بموجبه سيجري نقل الغاز الاذربيجاني إلى أوروبا، إلى جوار مشروع أنابيب "باكو-تبليسي-أرضروم".
وإلى جوار أنابيب الطاقة مُدت خطوط السكة الحديدية، لتشكل تركيا وأذربيجان حلقة وصل ما بين العالم التركي ووسط آسيا، وأوروبا، وذلك عبر سكة حديد "باكو-تبليسي-قارص"، المتوقع لها أن تلعب دوراً كذلك في مشروع طريق الحرير الجديد.
كما تسعى تركيا وأذربيجان إلى فتح ممر "زنغزور" المتوقع له أن يقود تحولاً استراتيجياً في اتصال تركيا برياً مع أذربيجان بشكل مباشر دون المرور عبر جورجيا، وبالتالي يمثل اتصالاً أقوى مع العالم التركي ومنطقة وسط آسيا، ويواجه الطريق الجديد تحديدات عدة يقابلها إصرار تركي أذربيجاني على فتحه وإعادته إلى الحياة.
كما شكَّل "إعلان شوشة" في يونيو/حزيران 2021، الذي وقَّع عليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، في مدينة شوشة المحرَّرة، ذروة التعاون الأذربيجاني التركي؛ فعلى مدار السنوات الماضية نجح البَلَدَان في عكس التقارب الثقافي والعرقيّ والجغرافيّ إلى علاقة استراتيجية تأخذ أبعاداً مختلفة.
هذه المعطيات وغيرها تُظهر أن مستقبل العلاقة بين باكو وأنقرة يتجه بصورة متزايدة نحو الازدهار والتطور الذي يعمل على تعزيز اتصال شعوب المنطقة وبناء مصالح مشتركة تسهم في استقرار المنطقة وحفظ السلام في القوقاز ووسط آسيا.