جريد كوشنر يتحدث في قمة البحرين التي انعقدت للإعلان عن الجزء الاقتصادي من "صفقة القرن".  (Reuters)
تابعنا

في الوقت الذي يَحتفي فيه من يدور في فلك سياسة ترمب بما يسمى "صفقة القرن" التي تُلوح بالازدهار في منطقة النزاع بالشرق الأوسط، بضخ رؤوس الأموال التي من شأنها أن ترتقي بأوضاع ساكنيه، وعلى رأسهم الفلسطينيون، نشرت صحيفة لوموند دبلوماتيك الرصينة تغطية عن الأوضاع المزرية التي يعيشها أهالي غزة.

التلويح بالازدهار والنماء والرفاه وما يشبه ذلك من الشعارات الرناّنة، بدأ مع مسلسل السلام في ما عُرف باتفاق غزة-أريحا أولاً، إذ انعقد غداة اتفاق أوسلو مؤتمر للدول المانحة في واشنطن في أكتوبر/تشرين الأول سنة 1993. القصة معروفة كما نتائجها. فكيف يمكن أن تنجح صفقة القرن فيما فشل فيه مسلسل السلام، مع انخراط الفلسطينيين والدول العربية المعنية مباشرة بالنزاع حينها، من خلال المسارات الثانية أو متعددة الأطراف.

التقرير المنجز من قِبل لومند دبلوماتيك لشهر سبتمبر/أيلول الحالي، المعنون بـ"غزة: شعب وراء القضبان" بقلم أوليف بيرونيه Olivier Pironet، يقف على الأوضاع المزرية التي يعيشها سكان غزة أمام انسداد أي آفاق لتحسن الوضع مع استمرار النزاع وفرض الحصار. على مساحة 365 كلم مربع يعيش أكثر من مليوني نسمة، وهي من أكثر الكثافات السكانية ارتفاعاً في العالم، في وضع غير اعتيادي بسبب الحصار الذي فرضته إسرائيل منذ 2006 على غزة، براً وبحراً وجواً. لا منفذ لغزة على العالم، بما فيها نحو الجنوب في معبر رفح نحو مصر.

من نتائج الحصار أن الشريحة التي تعيش على الصيد البحري تتقلص يوماً عن يوم. مجال الصيد البحري محدود في المياه الإقليمية، ولا يُسمح للصيادين بتجاوزها إلى أعالي البحار حيث توجد الأسماك بكثرة. تُرابِط القوات البحرية الإسرائيلية في خط المياه الإقليمية، و لا تتورع عن إطلاق النار على كل قارب يتجاوز الخط، وغالباً من دون تنبيه، ما أدى إلى وفيات وجرحى وأعطاب في القوارب. تضاءل عدد الصيادين من زهاء عشرة آلاف إلى ثلاثة آلاف ونيف، 95% منهم يعيشون تحت خط الفقر (أقل من خمس دولارات في اليوم) بعد أن كانت النسبة سنة 2008 حوالي 50%.

يتضرر القطاع الزراعي كذلك بسبب الإجراءات الأمنية الإسرائيلية المشددة. فالمنطقة المتاخمة لإسرائيل كلها مفصولة بالأسلاك الشائكة مع منطقة عازلة داخل غزة يُمنع فيها أي تواجد، تتراوح ما بين 300 متر وكيلومتر ونصف. أي أن الأراضي الزراعية الموجودة بها لم تعد تُستغل. كلُّ تواجد فيها تواجهه إسرائيل بإطلاق النار. ويُمنع على أصحاب المزارع المتاخمة للخطوط الإسرائيلية الاشتغال ليلاً، وكل إنارة تواجَه بإطلاق النار من قبل القوات الإسرائيلية، هذا فضلاً عن استعمال الكاسحات والبلدوزرات في الأراضي الزراعية المتاخمة، في ظروف التوتر، دون مراعاة لطبيعة الأراضي الزراعية ولمحصولها. وقد انخفضت نسبة من يشتغلون في القطاع الزراعي، فضلاً عن تقلص المردودية بشكل صارخ، وانعكس ذلك في تدنى مداخيل الفلاحين الغزاويين.

تعتبر نائبة مدير برنامج الأمم المتحدة للتجارة والتنمية السيدة إزابيل دورانت Isabelle Durant الوضع بغزة لا يطاق جرّاء الحصار المفروض من قِبل إسرائيل بمؤازرة مصر، وترى أن غزة غير قابلة للحياة إن استمر الوضع إلى سنة 2020. ويفاقم الوضع الحروب التي ما فتئت إسرائيل تشنها منذ 2006.

فحرب 2008-2009 المريعة حيث قضى زهاء ألفين فلسطيني وحرب 2012 و2014 ضاعفت كلها من الأزمات الإنسانية والاقتصادية في القطاع. فالطاقات الإنتاجية من معامل ووحدات إنتاجية دُمرت، حسب المنظمة العالمية للتجارة والتنمية، وهو الأمر الذي انعكس على البطالة التي ارتفعت بشكل صاروخي وتمس بالأساس فئة الشباب.

فرض الحصار على الوحدات الصناعية أن تغلق وتُسرح العمال. وبذلك أضحت غزة حسب القيادي الفلسطيني القريب من حماس غازي الحمد سجناً كبيراً، يخضع فيه شعب للاحتلال العسكري، ولا يعيش إلا بمسكنات لتفادي الانفجار. ذلك أن غزة منذ 2006 مع انتخاب حماس تعيش عقاباً جماعياً مستمراً مع تواطؤ دولي.

من نتائج الحروب والحصار تأثر مصادر الطاقة في القطاع. فقد دُمر مركز توليد الكهرباء الوحيد سنة 2006، ومنذ ذلك الحين يعيش سكان القطاع على ربط كهربائي متقطع وغير قار. وعلى الرغم من إعادة إصلاح الوحدة الإنتاجية فهي لا تشتغل إلا بـ20% من قدرتها. ما يعني أن على قطاع غزة أن يستورد حاجته من الطاقة الكهربائية من إسرائيل، عبر السلطة الفلسطينية التي تؤدي الفاتورة مباشرة.

يتراوح الربط الكهربائي ما بين 8 و12 ساعة وتتخلله انقطاعات، ما يؤثر على سير الحياة العادية. لا يمكن الاحتفاظ بأي شيء في الثلاجات، ومن العسير على السكان اقتناء مولدات لارتفاع أسعارها. وقد سبق للسلطة الفلسطينية أن رفضت أداء فاتورة الكهرباء إلى إسرائيل للضغط على حماس، وانخفض الربط الكهربائي جرّاء ذلك إلى ثلاث ساعات. ويشكو السكان نقص الإمداد من الماء، فضلاً عن ندرته بسبب الضخ المكثف وتلوثه.

الوضع الصحي جرّاء الحصار كارثي، ومستشفى الشفاء لم يعد يستطيع أن يستجيب لطلبات السكان، بسبب نقص الأدوية وضعف الموارد البشرية والانقطاعات الكهربائية والقصف الإسرائيلي.

من الصور المريعة التي نقلها صاحب التقرير من مستشفى الشفاء صور المعطوبين بسبب القناصة الإسرائيليين أو تسديد القوات الإسرائيلية لمظاهرات مسيرات العودة. الرصاص المسدد للمتظاهرين يُخلف أضراراً دائمة سواء على مستوى العضلات أو الأعصاب أو الأعضاء الحيوية، ولذلك لا يرى الأطباء في حالة تسديد الأطراف سوى البتر. عدد الجرحى للمسيرات الذين جرى إحصاؤهم يتجاوز 30 ألف شخصاً، وزهاء ألفين منهم حسب تقرير للأمم المتحدة معرض لبتر عضو من الأعضاء إن لم يُسمح لهم بالعلاج خارج غزة.

طبيعة مسيرات العودة أنها سلمية وتدعو إلى حق دولي وهو العودة، وهي شكل من أشكال المقاومة السلمية، لكن إسرائيل قررت مواجهتها بالنار. 200 شخص لقوا حتفهم بنار القوات الإسرائيلية منهم 50 طفلاً، فضلاً عن رجال الإغاثة والصحافيين. واعتبرت لجنة أممية أن إطلاق النار على المتظاهرين يعتبر جريمة حرب، أو جريمة ضد البشرية. وقد ضربت إسرائيل عرض الحائط بكل التقارير بحجة الدفاع عن سيادتها وأمن مواطنيها.

الوضع المتفجر أدى إلى مظاهرات ضد غلاء المعيشة والأوضاع المزرية، ورفع المتظاهرون شعار "بدنا نعيش". اعتبرت حماس أن من يحرك المظاهرات هي فتح، وواجهت المتظاهرين بالقمع. وهو الأمر الذي انعكس سلباً على معنويات المتظاهرين من أجل العودة، إذ تعيش غزة تشظياً ما بين حماس وفتح. ولا تستطيع فتح بالنظر إلى تورطها في مسلسل السلام وإخفاقاتها المتتالية وفساد إدارتها أن تغير الاتجاه العام الذي يبقى متأثراً بحماس.

يظل اليأس حسب صاحب التقرير مهيمناً على شرائح واسعة على الرغم من توقها إلى السلام، لكنها مغلوبة على أمرها بالنظر إلى تعنت إسرائيل، ولا ترى شرائح واسعة من مخرج سوى المصالحة الوطنية.

فكيف الزعم بالرفاه في ظل الاحتلال والحصار؟ وهي لَعَمْري صفاقة ما بعدها صفاقة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً