تابعنا
وتيرة الضغوط الأمريكية تتزايد على نتنياهو للتماشي مع رؤية واشنطن تجاه الحرب، التي تقوم على تسليم حكم غزة إلى السلطة الفلسطينية المجددة، والإقرار بحل الدولتين للدفع باتجاه صفقة تطبيع إسرائيلية-سعودية.

يتشاجر الأشقاء داخل العائلة الواحدة، ويختلف الأصدقاء لأسباب شتى، وتتفاوت الآراء بين الأحزاب المتنوعة في ذات الدولة، وتتباين وجهات النظر داخل الفريق الرئاسي في البلد الواحد، من دون وصول الأمور إلى مرحلة العداء.

إنّ المتتبع للعلاقات الأمريكية-الإسرائيلية يجد أن مياهاً كثيرة جرت خلال أكثر من ستة أشهُر بين مشاركة الرئيس الأمريكي جو بايدن في جلسة لحكومة الحرب الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتصريحه في مارس/آذار 2024 بأن "نتنياهو يضرّ بإسرائيل أكثر مما ينفعها في طريقة إدارته للحرب في غزة"، وظهر التباين بين الجانبين للعلن من دون مواربة.

الدعم المطلق أولاً

في ظل خطورة عملية طوفان الأقصى على أمن إسرائيل، سارعت واشنطن للتدخل مباشرة في مجريات الحرب، فأرسلت مجموعتين قتاليتين بحريتين برفقة حاملتَي طائرات إلى المنطقة، وبعثت بألفَي جندي لتقديم الدعم والمشورة لعملية جيش الاحتلال الإسرائيلي البرية، ودشنت خط إمداد جوياً بالذخائر والعتاد، كما أرسلت الجنرال جيمس غلين للمشاركة في غرفة العمليات لمساعدة الإسرائيليين في حرب المدن، وطلب البيت الأبيض من الكونغرس دعماً مالياً لتل أبيب بقيمة 14 مليار دولار.

وبالإضافة إلى ما سبق، تبنّى بايدن السردية الإسرائيلية للأحداث، فزعم أنه رأى صوراً لمسلحين فلسطينيين يقطعون رؤوس الأطفال، قبل أن يتراجع لاحقاً عن تلك الرواية، وشكك في أعداد القتلى من المدنيين الفلسطينيين، كما قدم الحماية السياسية لإسرائيل عبر استخدام حق النقض مرات عدّة ضد قرارات لمجلس الأمن تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، ثم علّق تمويل بلاده لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، البالغ 350 مليون دولار سنوياً.

رغم هذا الدعم الشامل فإنّ بوادر للاختلافات بين الموقفين الأمريكي والإسرائيلي برزت منذ بداية الحرب، إذ ضغطت واشنطن على تل أبيب لعقد صفقة إطلاق أسرى قبل توسيع نطاق العملية البرية، والاعتماد على القصف الجوي وعمليات القوات الخاصة بدلاً من الاجتياح بالمدرعات لتقليل الخسائر البشرية، وهو ما رفضته حكومة نتنياهو التي أرادت تدمير قطاع غزة تحت شعار تفكيك قدرات حماس العسكرية وتقويض حكمها للقطاع.

ظهور التباين

مع طول أمد الحرب بدأت واشنطن تتعرض لضغوط متصاعدة تجادل بأن الانحياز لإسرائيل يضرّ بالمصالح الأمريكية، وظهرت مؤشرات على عدم وحدة الموقف داخلياً، إذ وقّع المئات من موظفي وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي والبيت الأبيض عرائض تدعو إدارة بايدن للضغط من أجل وقف فوري لإطلاق النار، ثم إحراق جندي أمريكي نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن احتجاجاً على الحرب في غزة.

واتضح أن بايدن يخسر أصوات عديد من الناخبين العرب والمسلمين مع اقتراب سباق الانتخابات الرئاسية، لذا رفع بايدن تدريجياً مستوى انتقاداته لحكومة نتنياهو مع استمراره في تقديم الدعم العسكري لها، فصرح في 12 ديسمبر/كانون الأول الماضي بأن "إسرائيل بدأت تفقد دعمها في أجزاء أخرى من العالم" وبأن "حكومة نتنياهو هي الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، وأنها لا تريد حل الدولتين، وأنه يتعين على نتنياهو تقوية وتغيير الحكومة الإسرائيلية لإيجاد حل طويل الأمد للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني".

ولذرّ الرماد في الأعين أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن فرض قيود على تأشيرات لعدد من المستوطنين المنخرطين في أعمال عنف ضدّ الفلسطينيين في مناطق الضفة الغربية.

إنّ واشنطن دعمت العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة، لكنها تريد رسم مسار ولو شكليّ لحل الدولتين يُقنِع الدول العربية بضخ الأموال في إعادة الإعمار، كما تفضّل تسليم القطاع إلى السلطة الفلسطينية، وتضغط لتجنب توسع الحرب إلى لبنان لتلافي اندلاع حرب إقليمية تضرّ بالمصالح الأمريكية.

تولدت قناعة لدى الإدارة الأمريكية باستحالة القضاء على حركة حماس عسكرياً، إذ يظهر مقاتلوها مجدداً في مناطق غزة التي ينسحب منها جيش الاحتلال الإسرائيلي، كما توالت المؤشرات على حرص نتنياهو على إطالة أمد الحرب وإرضاء قاعدته اليمينية التي ترفض إقامة دولة فلسطينية، وبحثه عن إنجاز عسكري يسوّق له محلياً.

لقد أسهم وزير الأمن القومي بن غفير في نقل الخلافات بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو إلى مربع التنافس الانتخابي، وصرح في مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال في فبراير/شباط الماضي قائلاً إنّ "بايدن مشغول بإعطاء غزة المساعدات الإنسانية والوقود الذي يذهب إلى حماس، ولو كان ترمب في السلطة لأصبح سلوك الولايات المتحدة مختلفاً تماماً".

سرعان ما جاء الرد الأمريكي صارماً، فاستضافت إدارة بايدن الوزير في مجلس الحرب غانتس من دون تنسيق مع نتنياهو لمناقشة خطط اليوم التالي للحرب، فيما أشار تقييم التهديدات السنوي الصادر عن مكتب رئيس الاستخبارات الوطنية الأمريكية إلى اتساع حالة عدم الثقة بقدرة نتنياهو على الحكم.

ثم صرح رئيس الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، الذي يُعَدّ أحد أبرز القادة اليهود في الولايات المتحدة، بأن نتنياهو ضلّ طريقه وأنه يجب إجراء انتخابات جديدة في إسرائيل، ثم أكد بايدن أن شومر تشاور معه قبل نشر بيانه، وردّ مقربون من نتنياهو بأن هذا تدخُّل أمريكي في شؤون إسرائيل الداخلية.

تشير تلك المواقف الأمريكية إلى مراهنة البيت الأبيض على غانتس بديلاً لنتنياهو، في ظل إصرار الأخير على رفض الرؤية الأمريكية لوضع غزة ما بعد الحرب، وتحالفه مع اليمين الديني الداعي لتهجير الفلسطينيين من القطاع، ورفضه لقبول حل الدولتين، فيما طالب غانتس بعد عودته من واشنطن بإجراء انتخابات مبكرة في إسرائيل بحلول سبتمبر/أيلول القادم، وهو ما رفضه نتنياهو زاعماً أن الانتخابات ستشل الدولة وتعرقل الحرب.

الخلاف حول عملية رفح

يلوّح الاحتلال الإسرائيلي بشنّ عملية عسكرية في مدينة رفح جنوب القطاع "لتفكيك آخر أربع كتائب نظامية من حماس"، وللسيطرة على محور فيلادلفيا لقطع أي تواصل برّي مباشر بين غزة ومصر بهدف عرقلة عمليات التهريب عبر الحدود ومنع إعادة تسليح حماس مجدداً، وللضغط على فصائل المقاومة الفلسطينية لإجراء صفقة تبادل أسرى بسقف منخفض وفق الشروط الإسرائيلية.

من جانبها ترفض واشنطن تنفيذ الهجوم على رفح قبل نقل السكان إلى مكان آخر لتجنب وقوع أعداد ضخمة من القتلى في ظل تكدس أغلب سكان قطاع غزة في المدينة، ولتجنب أزمة مع مصر التي ترفض حدوث قتال على حدودها قد يدفع النازحين باتجاهها، فيما تقترح الإدارة الأمريكية بديلاً بتطويق رفح وشن عمليات محددة تستهدف كوادر حماس من دون تنفيذ اجتياح بري واسع للمدينة.

في ظل التعنت الإسرائيلي بدأت إدارة بايدن بحلول مارس/آذار الماضي في تنفيذ رؤيتها لقطاع غزة من دون انتظار حكومة نتنياهو، فشرع الجيش الأمريكي في بناء رصيف بحري شمال القطاع لتوفير مليونَي وجبة يومياً لسكان القطاع، وتهدف واشنطن بذلك إلى سحب مظاهر الحكم من حماس عبر التحكم في توزيع الطعام، فضلاً عن سحب الكثافة السكانية من رفح باتجاه الشمال قبل تنفيذ هجوم فيها، ولإجبار إسرائيل على البحث عن جهات فلسطينية لتوزيع المساعدات ضمن رؤية البيت الأبيض بضرورة وجود بديل فلسطيني لحكم غزة.

لحين اكتمال بناء الرصيف، بدأ الجيش الأمريكي في إلقاء مساعدات غذائية عبر الجو على مناطق غزة، كما دعمت واشنطن تدشين خط نقل بحري من ميناء لارنكا تنقل خلاله السفن المساعدات إلى القطاع بعد تفتيشها في قبرص من طرف الإسرائيليين، وبالفعل وصلت أول سفينة بواسطة منظمة المطبخ العالمي، لكن سرعان ما تعرضت قافلة تابعة للمنظمة المذكورة لقصف إسرائيلي أسفر عن مقتل سبعة أشخاص أغلبهم أجانب، مما أجج غضب الإدارة الأمريكية باعتبار الحادث يعرقل جهودها.

وحملت المحادثة التالية للحادث بين نتنياهو وبايدن تحذيرات واضحة بأن استمرار النهج الإسرائيلي سيتبعه تغيير في النهج الأمريكي تجاه تل أبيب، مما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى الإعلان عن زيادة عدد شاحنات المساعدات إلى 500 شاحنة يومياً، وفتح معبر إيريز للمرة الأولى منذ بداية الحرب، وإجراء تحقيق داخل جيش الاحتلال لمعاقبة المتسببين في الحادث.

آفاق المستقبل

إنّ وتيرة الضغوط الأمريكية تتزايد على نتنياهو للتماشي مع رؤية واشنطن تجاه الحرب، التي تقوم على تسليم حكم غزة إلى السلطة الفلسطينية المجددة، والإقرار بحل الدولتين للدفع باتجاه صفقة تطبيع إسرائيلية-سعودية.

وترى واشنطن أن القضاء الكامل على حماس أمر متعذر، وأن النجاح في تدمير أغلب البنية التحتية العسكرية من مستودعات أسلحة، وورش تصنيع أسلحة، وأنظمة قيادة وسيطرة، يلبي هدف إضعاف حماس لدرجة تجعلها عاجزة عن شن هجوم آخر مثل طوفان الأقصى.

كذلك تدفع واشنطن إلى عقد هدنة مؤقتة يمكن استثمارها في تحريك المشهد السياسي في إسرائيل لعقد انتخابات تأتي بغانتس، ولذا نشاهد حالياً اتساعاً في حجم ونطاق المظاهرات في إسرائيل التي تطالب بعقد صفقة لتبادل الأسرى وعقد انتخابات مبكرة.

من جهته يماطل نتنياهو أملاً في وصول ترمب إلى السلطة في الانتخابات الرئاسية نهاية العام الجاري، مما سيحبط تحركات إدارة بايدن ضده. ولتحقيق ذلك رفعت حكومة نتنياهو وتيرة التصعيد مع إيران بقصف قنصليتها في دمشق، كما وسع نطاق غاراتها في لبنان، وكثفت استهداف كوادر الشرطة واللجان العشائرية في غزة لنشر حالة من الفراغ والفوضى تفتح الباب لإيجاد بديل محلي من العائلات أو المتعاونين بدلاً من تسليم حكم القطاع رسمياً إلى السلطة الفلسطينية، كما رفض نتنياهو حتى اللحظة الراهنة الاستجابة لطلبات حماس في التفاوض، التي تشمل عودة السكان إلى شمال القطاع ووقف إطلاق النار بشكل دائم والتعهد بالانسحاب الكامل من غزة.

تزداد فرص حدوث مزيد من التصعيد في رفح بعد انتهاء شهر رمضان، كما ستزداد الاحتجاجات الداخلية في إسرائيل ضدّ حكومة نتنياهو، ويُرجح أن ينصاع نتنياهو للضغوط الأمريكية عبر السماح بانتقال السكان من رفح إلى خان يونس وبدرجة أقل إلى شمال غزة قبل شنه عملية برية في المدينة.

لكن سيبقى المشهد قابلاً للمفاجآت على وقع حدود التصعيد مع إيران حال تنفيذها لتهديداتها بالرد على قصف قنصليتها في دمشق، فضلاً عن نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً