تابعنا
لا عقل يستوعب حجم المأساة في استقبال الغزيين عيدهم في الخيمة، تلك الخيمة شديدة الرطوبة صغيرة الحجم، البائسة التي لا روح فيها ولا بهجة، ولا أُنس الأيام التي اعتادوها في بيوتهم الجميلة.

كيف لابنة المسلمين الصغرى أن تُترك وحيدةً بلا عيد ولا تكبيرات المآذن ولا ثياب جديدة؟ كيف لغزة أن تكون يتيمة الفطر؟

أتى السنة العيد ثقيلاً جدّاً محمَّلاً بعُمرٍ من القلق والفقد والألم والموت، أتى بعد 186 يوماً من حرب الإبادة المستمرة، وفي هذا العيد لن تستطيع العائلة في غزّة أن تجتمع على سُفرة واحدة، إما لأنّ أحد أفرادها على الأقل قد استُشهد، أو لأنّ لديها مصاباً يقيم في المستشفى أو ينتظر دوره في السّفر للعلاج، أو ربّما تكون العائلة مشتَّتة بين الشّمال والجنوب.

والأسوأ من هذا كله أنّ الشمال يبعد عن الجنوب مسافة نصف ساعة بالسيارة فقط، ومع ذلك لا يستطيع أحد أن يتحرّك بينهما من دون خطر الموت الذي يلوّح به شبح الحاجز الإسرائيليّ، وظِلّ الدبابات الموجودة على جانب الطّرقات التي تطلق النار على أيّ شخص يحاول العودة إلى الشّمال.

كان العيد يأتي كلّ سنة على قطاع غزة ويحمل معه كثيراً من البهجة والإصرار على حبّ الحياة رغم كل ما يعيشه النّاس من صعوبات في القطاع، حيث تبدأ طقوس العيد صباحاً من مئذنة المسجد التي تصدح بتكبيرات الشّيخ ومعه الكبار والصّغار الذين يصرخون بأعلى أصواتهم الجميلة فرحين، ويؤدي الناس صلاة العيد ثمّ يعودون إلى منازلهم.

وبعد ذلك ينقسم النّاس إلى مزاجين، منهم من يتناول الفسيخ وجبةً للفطور ومنهم من يتناول السماقيّة الغزاوية، وتبدأ الرائحة الشهية بالانتشار في الشوارع التي تعجّ بالصبية الأنيقين في ثيابهم الجديدة، الذين ناموا ليلتهم في حضن الثّياب بانتظار أن يأتي الصباح ويطلّ العيد، وتقفز قلوبهم لها فرحاً.

تبدأ بعدها مراسم الزيارات بين الأقارب والجيران والأصدقاء، بدفء ومحبّة وضيافة شهيّة، وأكثر ما يميّز الأعياد هو عودة المغتربين إلى حضن البلاد، ولمّ شمل العائلات بعد سنوات وسنوات من فراق الأحبّة للدراسة أو العمل، فيختار كثيرون أيّام العيد ليعودوا إلى قلب مدينتهم النّابض وعائلاتهم التي يفتقدونها.

أما اليوم، فلا عقل يستوعب حجم المأساة في استقبال الغزيين عيدهم في الخيمة، تلك الخيمة شديدة الرطوبة صغيرة الحجم، البائسة التي لا روح فيها ولا بهجة، ولا أُنس الأيام التي اعتادوها في بيوتهم الجميلة.

لا أفراح تسير في الشوارع وأزقة المخيمات، آه تذكَّرت، لا شوارع ولا مخيمات، تهاوت كلها كقطع شطرنج لعب بها العالم؛ لا أثاث جديداً يُعيد للبيوت إشراقها، بعدما امتلأت بذكريات الحروب السابقة، فالبيوت صعدت للسماء أسراباً.

لا أثواب عيد، لا أمهات يمشطن ويهندمن ويرششن العطر لأطفالهن، ولا آباء يوزعن العيدية.. خطفوا العائلة، وهنا لا يرجع المخطوف ولو دُفعت دية الأرض جميعاً.

لن تسمع تكبيرات العيد في غزتنا، لا تظن أننا تركنا سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) وزهدنا بأجرها، فنحن أهل القرآن وأهل الله وخاصته، ولكن ماذا عسانا نفعل وقد دمّروا مآذننا؟ إذ دمّر الاحتلال قرابة 500 مسجد.

ولكن نحن كما تعرفوننا، سنكون المآذن، ونحاول أن نصدح بما تبقى من صوتنا المبحوح. لا أدري إنْ كان العالم سيسمع تكبيراتنا، فألف ألف سنة مرت ونحن نستغيث في هذه الشهور، ولم ينبئنا أحد بأن صوتنا وصل إليه!

ماذا عن قلوب الأمهات في العيد؟ كم أُم سلب الاحتلال حياة أولادها ولن تسمع تكبيراتهم بعد اليوم ولا مشاكساتهم الصباحية التي تبدأ بمن سيأخذ دوره في الاستحمام أولاً ككل صباح عيد كما اعتادت عليهم؟ كم أُم أسَرَ الاحتلال أبناءها ولا تعلم عنهم شيئاً إنْ كانوا على قيد الحياة أم لا؟

اليوم حتّى أضعف شكلٍ للاتصال صار أشبه بالمعجزة، فالتّواصل عبر الهواتف النّقالة صعب وأشبه بالمستحيل، وهو حلم بالنّسبة لنا لنسمع صوت عمّتي الموجودة في مخيّم جباليا في شمال قطاع غزّة، عمّتي التي اعتدنا كلّ عام أن نزورها في يوم العيد، ونتناول من الكعك والمعمول المميز الذي تعدّه لنا، كانت توزّعه على جميع العائلة، ونتجمع في بيتها الدافئ حتى تملأ قلوبنا بالفرح والضّحكات، واليوم عمتي وحيدة في الشّمال ليس بجوارها أحد، ومعرّضة للموت في أيّ لحظة، جائعة لا يوجد لديها طعام، ولا يتوافر عندها حتى الطّحين الذي اعتادت أن تصنع لنا منه الكعك كل عام.

عيد هذا العام لم يأتِ، فهو لا يزور مدينة قتل منها احتلالها 14500 طفل، حيث قتل بهجتهم وفرحتهم وبراءتهم وطفولتهم، قتل من الصغار الذين أعرفهم عمر ومريم وحلا ويوسف، وكثيرين أيضاً، جميعهم كانوا ينتظرون قدوم العيد للعب والفرح، منهم 30 طفلاً فارقوا الحياة إثر المجاعة في الشمال من دون أن يتذوقوا حلويات أمهاتهم في العيد ومن دون أن يلبسوا ثيابهم الجديدة، وتركوا خلفهم في هذا العالم القاسي 17000 طفل فقدوا أحد الوالدين أو كلاهما، هؤلاء الذين لن يزورهم العيد بعد اليوم، فقلوبهم صارت رماداً من حزنهم على من فقدوا.

ولم تزدحم محلات الشوكولاته أو مخابز الكعك والمعمول ومتاجر الملابس، لم نشرب قهوة العيد التي تعدها الأمهات بنفسٍ طيبة وتنتشر في كل الأرجاء رائحة القهوة الممزوجة بالهيل.

في هذا العيد لم تزدحم الشوارع بضجة الأطفال على المراجيح وجموع الناس المهنئ بعضهم بعضاً بملابسهم الجميلة ورائحة عطرهم الجديد التي تفوح بينهم، لن تشعل غزة البخور بعد الآن.

لم تصور الأمهات أطفالها بأحلى طلة، ولم يعدّ الأطفال عيدياتهم مبتسمين فرحين..!

ورغم كلّ الإبادة التي شهدتها غزة، فإنّها تظلّ غزة، وتصرّ على رسم الجمال في كلّ تفصيلة، فتجدُ النّاس يضعون بعضاً من الورود في خيمهم، والحلّاقين يعملون بين الخيام، والنّاس يهنئ بعضهم بعضاً في محاولةٍ لاستعادة جزء بسيط من شعائر العيد حتى بأبسط الإمكانات المستحيلة!

شعب غزّة حيّ، ولا يشبهه هذا الحُزن، يحبّ العيد ويحبّ الفرح ويحبّ الحياة، ويتغلّب بها على عدوّه ويسلبها من بين فكّي النّزوح والقهر والموت.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً