تابعنا
أدى التدخل التركي بجانب الحكومة المعترف بها دولياً في ليبيا إلى إعادة العملية السلمية من جديد وهو ما يصب في ملصحة الأطراف جميعاً ومنهم أوروبا التي يجب أن تشكر تركيا بدلاً من إلقاء اللوم عليها.

في الأوساط السياسية والدوائر الإعلامية في الغرب عموماً، وفي أوروبا على وجه الخصوص، لا تكف الأصوات المناهضة لتركيا عن انتقادها بسبب تدخلها في ليبيا، وقدرتها على عكس عقارب الساعة هناك بما لا يتلاءم مع مخطط الانقلابي حفتر وداعميه الإقليميين والدوليين. وبدلاً من شكر تركيا على دورها البناء في الأزمة، تعمل أوروبا على انتقادها، وتوجيه اللوم إليها، بل العمل على مناكفتها بشكل يتعارض مع المبادئ التي لطالما حاولت أوروبا التغني بها حول حقوق الإنسان ودعم الديمقراطية.

لقد كان الموقف التركي منذ البداية مع الحل السلمي في ليبيا، والحفاظ على وحدة أراضيها، وحقن دماء أهلها من خلال دفع الفرقاء إلى طاولة الحوار بعد أن أدى الدعم الخارجي لخليفة حفتر إلى تمرده على العملية السلمية، وقيامه بشن الهجوم العسكري الدموي على العاصمة طرابلس الذي أدى إلى إسالة دم الآلاف من المدنيين الليبيين، وحرق بيوتهم وأملاكهم.

لقد أثبت الإعلان المتزامن يوم أمس، من قبل فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً، وعقيلة صالح رئيس برلمان طبرق، الذي دعوَا فيه كل على حدة لوقف إطلاق النار تمهيداً لبدء عملية سياسية، أن سياسة تركيا قد آتت أكلها، وأنه لولا تدخل تركيا الحاسم بدعم الحكومة الشرعية في ليبيا، وإيقاف الانقلابي خليفة حفتر، لما كان هناك مجال للحديث عن حل سياسي، ولدخلت البلاد في أتون حرب أهلية لا يعرف أحد مداها ولا الآثار الناجمة عنها.

إن شكر أوروبا لتركيا وليس انتقادها ولومها إنما ينبني على حقائق على الأرض وليس لمجرد تصورات افتراضية قوامها تحيزات عاطفية أو أيديولوجية. فكما أسلفت لقد أفضى التدخل التركي إلى جوار الحكومة الشرعية في ليبيا إلى إحياء العملية السياسية من جديد، وهذا من شأنه أن يجنب البلاد المزيد من الحروب والمعارك.

وبالرغم من أن دعوات وقف إطلاق النار ما تزال هشة، فإن دعم العملية السياسية هناك من شأنه أن يحقق بعض الاستقرار في ليبيا، وهو الاستقرار الذي يصب في مصلحة أوروبا بشكل مباشر، سواء تجاه موضوع المهاجرين القادمين من عمق القارة الإفريقية ووقف تدفقهم، أو تجاه إعادة ضخ النفط ومشتقات الطاقة إلى أوروبا من جديد.

لقد قدمت تركيا لأوروبا فرصة سانحة لاستعادة الشعور بالأمن على حدودها الجنوبية، وهو ما يجب على أوروبا والأوروبيين التقاطه سريعاً والبناء عليه. وبدلاً من الاستمرار في النهج السابق في دعم الانقلابي خليفة حفتر، أو السكوت عنه، حان الوقت لأن تلعب أوروبا الدور البناء المتماشي مع مبادئها، التي تدعيها، ويتعلق بدعم الديمقراطية من خلال تشجيع عملية الحوار، والكف عن دعم خليفة حفتر نهائياً، والعمل على منع وصول السلاح إليه من الخارج. 

لقد منع التدخل التركي أيضاً حدوث مزيد من المجازر ضد الشعب الليبي، لقد أثبتت المشاهدات على الأرض مقدار الانتهاكات التي قامت بها قوات خليفة حفتر في ترهونة على سبيل المثال، حيث ارتكبت مجازر هناك ترقى إلى مستوى جرائم حرب. وقد قررت المحكمة الجنائية الدولية المباشرة بالتحقيق في الجرائم التي ارتكبها الانقلابي خليفة حفتر، وتشمل تلك الجرائم: الإبادة الجماعية لعائلات في مدينة ترهونة (غرب)، وجرائم ضد الإنسانية عبر اختطاف مدنيين وتعذيبهم والتنكيل بهم والتمثيل بجثثهم، وجرائم حرب تمثلت خاصة في قصف أحياء مدنية واستهداف طواقم طبية وقتل أسرى، وغيرها.

وهل يجدر بنا هنا تذكير الأوروبيين بالهدف الذي بسببه قامت كل من فرنسا وبريطانيا بشن هجماتهما العسكرية على قوات العقيد معمر القذافي في عام 2011؟ لقد كان السبب هو حماية المدنيين، وهو السبب ذاته الذي يتكرر اليوم. وما دام الهدف واحداً والسبب واحداً، فإنه من الأجدر بالأوروبيين شكر تركيا على حماية المدنيين في الغرب الليبي هذه الأيام من وحشية قوات حفتر التي سعت إلى إعادة سيناريو القذافي، ولكن هذه المرة بدعم وتواطؤ غربيين، وهو ما يثبت نفاق هذا الغرب وسياسة الكيل بمكيالين التي يتبعها تجاه المنطقة. فكما منع التدخل الفرنسي البريطاني معمر القذافي من ارتكاب مجازر في بنغازي قبل عشر سنوات، منعت تركيا خليفة حفتر من ارتكاب نفس المجازر في طرابلس. 

على أوروبا، وخصوصاً فرنسا، أن تعيد حساباتها هذه المرة، وأن تقف بصدق مع الشرعية الدولية التي تمثلها حكومة الوفاق، وأن تقف على مسافة واحدة من جميع الفرقاء، وتدعم حلاً سلمياً ودائماً للأزمة. كما أنه على ألمانيا أن تقف بثقلها خلف الجهود التركية، وتعمل على إقناع داعمي حفتر بضرورة العدول عن عدوانهم وخصوصاً دولة الإمارات. لقد كان هناك مساعٍ ألمانية في هذا المجال تمثلت بزيارة مفاجئة لوزير الخارجية الألمانية هيكو ماس إلى ليبيا ولقائه السراج، ثم السفر بعدها إلى الإمارات. إن من شأن دور ألماني في إقناع داعمي حفتر بالعدول عن سياساتهم العدوانية أن يهيئ الأجواء لعملية سياسية أكثر جدية.

أخيراً يجب على أوروبا، خصوصاً فرنسا، أن تتخلى عن سياسة تحميل تركيا أسباب ما آلت إليه الأزمة الليبية. إن الذي أدى بالأزمة بالأساس إلى أن تصل إلى هذا التعقيد، وما تمخضت عنه من قتال أزهق الآلاف من الأرواح، إنما هو انقلاب خليفة حفتر على العملية السياسية برمتها، وما كان لحفتر أن يقوم بذلك لولا أنه تلقى الدعم والضوء الأخضر من بعض القوى الإقليمية والدولية، على رأسها دولة الإمارات ومصر وفرنسا. 

إذن لم يكن التدخل التركي هو الذي خرّب العملية السياسة بل انقلاب حفتر ومن خلفه الداعمون له. إن النظر إلى الأزمة من زاوية مختلفة، والكف عن لوم تركيا، من شأنهما أن يأتيا بنتائج بناءة تسهم في حقن دماء الليبيين، وإعادة بناء دولتهم ومؤسساتهم على منطلقات الديمقراطية بعيداً عن النموذج الدكتاتوري العسكري الذي يسعى لتطبيقه حفتر في حال انتصر في معركة طرابلس.

إن أمام أوروبا فرصة لتثبت لنفسها وللعالم صدق مبادئها، وتركيا هيأت لها البيئة المناسبة لتحقيق ذلك، فهل سيغتنم الأوروبيون الفرصة؟ أم سوف يستمرون في إلقاء اللوم على تركيا ومناكفتها؟ 

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي