ولي عهد دولة الإمارات الأمير محمد بن زايد ووزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن  (Jacquelyn Martin/AFP)
تابعنا

واعتبر كاتب الدولة الأمريكي (وزير الخارجية) صورة الأيادي المتشابكة بالنقب، التي تعبر عن تكاتف المشاركين، حدثاً لم يكن ممكناً تصوره، قبيل سنوات بل شهور، مع ما يحمله من دلالة. ثم انتقل للتو إلى الرباط في محادثات ثنائية مع نظيره المغربي السيد ناصر بوريطة. وبالرباط التقى ولي عهد الإمارات الشيخ محمد بن زايد، وبعدها طار إلى الجزائر حيث استُقبل من قِبل الرئيس الجزائري السيد عبد المجيد تبون، وأجرى مباحثات مع نظيره الجزائري، السيد رمضان لعمامرة. وبالجزائر العاصمة أدلى بتصريح غاية في الأهمية قال فيه إنه توجد فترات لا يسوغ فيها البقاء في المنطقة الرمادية، إذ لا بد من الاختيار ما بين الأسود والأبيض. وهي نبرة تُذكر بما قاله الرئيس الأمريكي بوش الابن عقب ضربات 11 سبتمبر/أيلول "من ليس معنا فهو ضدنا". كل هذا يؤشر على مقاربة جديدة في سياق جديد.

المثير في التحركات الأخيرة التي قادها بلينكن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو أن لقاء النقب انعقد في كيبوتز (تعاونية زراعية) التي تحتضن رفات بن غوريون في اليوم الذي يصادف يوم الأرض الذي يخلده الفلسطينيون. ولِبن غوريون أكثر من رمزية، فهو منشئ الدولة الإسرائيلية، يحج إلى مرقده مسؤولون من دول عربية، هو الذي كان يهزأ من العرب عموماً، وهو إلى هذا صاحب نظرية الترانسفير، لـ"حل المسألة الفلسطينية" أي طرد الفلسطينيين كلية من أرضهم.

وهل توجد سياسية من غير رمزية؟ والحلقة الثانية البارزة من تحركات بلينكن هي لقاؤه ولي العهد الإماراتي إثر جفاء بعد امتناع الإمارات عن إدانة غزو روسيا لأوكرانيا في الجمعية العامة. والغاية من اللقاء رد الإمارات إلى حضن الولايات المتحدة والخشية أن تكون ملاذاً لأموال من تسميهم الولايات المتحدة الأوليغارشيات الروسية.

واللافت أن محمد بن زايد استقبل بلينكن في منتجعه في ضاحية الرباط، وهو في عطلة، وبلباس غير رسمي، جاكتة على الدشداش، تحجب الطابع الرسمي. والحلقة الثالثة هي زيارة بلينكن للجزائر، بالنظر إلى مكانتها وثقلها وعلاقاتها مع موسكو ومخزونها في الغاز والبترول، لاستدرارها كي تصبح بديلاً للغاز الروسي، وهو ما عبرت عنه بالرفض عبر مدير شركة المحروقات المعروفة بحروفها الأولى اللاتينية، سوناتراك، غداة مغادرة بلينكن الجزائر.

المناسبة شرط كما يقول المثل، والمناسبة هي الحرب الروسية-الأوكرانية. تغلق الحرب قوساً وتفتح آخر في العلاقات الدولية عموماً، وفي علاقة الولايات المتحدة حيال العالم العربي خصوصاً. في زهاء جيل، أي منذ سقوط حائط برلين خضعت العلاقات الأمريكية-العربية لما كان يطلق عليه مذهب كلينتون، والقائم على أمن إسرائيل ورعاية مسلسل السلام الذي من شأنه أن يضمن الأمن لها (مقابل الأرض)، وتدفق البترول، وبالتبعية حماية الدول المصدرة له في المنقطة، والاحتواء المزدوج dual contaminent (لكل من إيران، والعراق إبّان صدام) وأخيراً الدمقرطة وحقوق الإنسان.

وعصف تدمير البرجين في 11 سبتمبر/أيلول بهذه المقاربة، لكي تصبح الحرب على الإرهاب هي المحدد، وانحجب معها كل اهتمام بالقضية الفلسطينية، ودور الراعي والوسيط النزيه، ومعادلة الأرض مقابل السلام، مثلما توارت الاهتمامات بحقوق الإنسان والدمقرطة. ما لبث العالم العربي أن غاب عن دائرة الاهتمام كما أفصح عن ذلك الرئيس السابق أوباما في حواره الشهير مع شهرية أتلانتك في أبريل/نيسان 2016. وعاد العالم العربي من مقاربة بزنس، ماذا يمكن أن يُقدم وماذا يمكن أن تجني الولايات المتحدة منه، في ظل ترمب، مع نقل السفارة الأمريكية إلى القدس واحتضان اتفاق أبراهام.

في ظل سياق الحرب الروسية-الأوكرانية يعود الاهتمام بالعالم العربي مجدداً، كما أشار السيد مروان المعشر، مَن كان وزير خارجية الأردن، في مقال له بعنوان "انعكاسات الحرب الروسية-الأوكرانية على المنطقة العربية" في القدس العربي (2 أبريل/نيسان). لا يمكن الحديث طبعاً عن براديغم (نموذج) جاهز وناجز، لأن المعنيِّين (أي المسؤولين الأمريكيين) لم يُسفروا عنه، ولكن يمكن الوقوف على بعض العناصر الناظمة للسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كما تسمِّيها أدبيات كتابة الدولة.

أولها عزل روسيا دبلوماسياً واقتصادياً، أو ممارسة نوع من الاحتواء لها. لم تكن الولايات المتحدة مرتاحة من مواقف الدول العربية في الجمعية العامة، إذ لم تعبّر عن إدانة صريحة، وهو ما عبّر عنه بأسى مارتن إنديك Martin Indyk، وهو خبير بقضايا العالم العربي ودبلوماسي ومنشئ معهد واشنطن القريب من إسرائيل في مقال له بـ"فورين أفيرز" (مارس/آذار 2022)، إذ أثار تصويت الدول العربية في الجمعية العامة هلعاً وسط من يُسمَّون "المعربين - Arabists"، أي من يتابعون قضايا العالم العربي، في الخارجية الأمريكية، وتأرجحت المواقف ما بين الإدانة الخجولة، أو الحياد، حسب مروان مشعر في المقال المومأ إليه، مع شعور مناوئ للغرب على مستوى الشارع العربي، نكاية في أمريكا وسياسية الكيل بالمكيالين.

والعنصر الثاني لهذه المقاربة الجديدة هو محاولة الضغط على الدول العربية المنتجة للبترول من أجل رفع مُنتَجِها لتعويض النقص الحاصل جراء الحصار على المحروقات الروسية.

يعود العالم العربي في دائرة اهتمام الولايات المتحدة، من بوابة البترول والغاز، كما كان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أو ما عبّر عنه الصحافي توماس فرديمان بـ"محطة بنزين" الولايات المتحدة.

والعنصر الثالث من هذه السياسة هو اتفاق إبراهام، أو روحه، وهو أن يمشى قطار التطبيع قُدماً، من خلال تفعيله، وإعطائه مضموناً في أوجه التعاون العسكري والأمني والاقتصادي والسياحي، وكسب مرشحين جدد تتقاطع مصالحهم وإسرائيل، وليسوا في دائرة "الممانعة".

والعنصر الرابع، وهو احتواء إيران، أولاً في ما يخصّ منع البرنامج النووي (مع اختلافات بسيطة ما بين الولايات المتحدة وإسرائيل في سُلّم الأولويات)، وثانياً تقليص نفوذها في المنطقة، من خلال التضييق على وكلائها، في اليمن والعراق ولبنان.

ويظلّ عنصر الأمن، أي محاربة الحركات الإرهابية في الساحل، قائماً، مثلما عبّر عن ذلك كاتب الدولة الأمريكي في كل من الرباط والجزائر.

أما قضيتا الدمقرطة وحقوق الإنسان، وفي حدودٍ ما صياغة المخيال والتبادل الحر، فلم تعُد من أولويات الولايات المتحدة، ولا من محددات السياسة الأمريكية تجاه العالم العربي، ولن تكون في المستقبل.

في هذا السياق الجديد، تعمد الولايات المتحدة إلى أن تلعب بين الحبلين وتمسك العصا من الوسط حينما يكون تقاطب بين أطراف عربية، كما هو الحال بين دول الخليج من جهة وقطر من جهة أخرى، وما بين المغرب والجزائر، والزعم كلما جرى الحديث عن اتفاق إبراهام بالدفع بحقوق الفلسطينيين.

تسعى الولايات المتحدة لأن تكسب الجزائر، وتخرجها من دائرة النفوذ الروسي، في الترتيبات الجديدة. تقول على لسان كاتب الدولة في الجزائر إن موقفها من قضية الصحراء لم يتغيّر، وإن الإطار من أجل حلّه هو الأمم المتحدة، وتدعم جهود ممثّل الأمين العام ستيفان ديمستورا، وتقول للرباط في الرباط إن الحكم الذاتي هو الإطار لحلّ ملفّ الصحراء.

تُبقي ضبابية مقصودة، أو غموضاً بنَّاءً Constructive ambiguity حسب التعبير المستعمل في التعاطي مع الملف، يُرضِي كل طرف، أو لا يغضبه، لأن الرهانات بالنسبة إلى أمريكا أكبر، وهي معاقبة روسيا، واحتواء الصين. أما القضية الفلسطينية فهي نوع من خدمة الشفتين، بالتعبير الأمريكي، في انتظار أن يعمل عامل الزمن عمله، وتطبّع بقية الدول العربية أو جُلُّها، وتتوارى القضية الفلسطينية ولا يبقى للفلسطينيين وقيادتهم إلا أن يقبلوا بالأمر الواقع.

في كل التحركات الأخيرة التي قام بها كاتب الدولة الأمريكي، في المنطقة، هناك غائب، هو الشعوب، فلم يكلّف السيد بلينكن نفسه عناء التقاء أي من ممثلي الشعوب، ولا فاعليات المجتمع المدني، ولا المثقفين. الأمر لا يكتسي أولوية، رغم أن أول جملة في الدستور الأمريكي: "نحن الشعب، وللشعوب كلمتها، ولو تأخرت".

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي