اسعاف أحد ضحايا الهجوم الذي وقع في بني براك في تل أبيب  (Jack Guez/AFP)
تابعنا

لكن انتقال الثقل الأمني بصورة مفاجئة إلى الداخل المحتل، شكل مفاجأة من العيار الثقيل لأجهزة أمن الاحتلال التي ركزت كل أنظارها ومخابراتها باتجاه الضفة وغزة والقدس.

مفاجأة ثانية حملتها الهجمات الفلسطينية الأخيرة أنها استهدفت جغرافيا فلسطين المحتلة كلها، في أسبوع واحد، بدأت بمدينة بئر السبع جنوباً، المسماة العاصمة الاقتصادية لدولة الاحتلال، ثم انتقلت بدون مقدمات الى مدينة الخضيرة شمالاً، وتل أبيب وكأن المنفذين امتلكوا أريحية مكانية جعلتهم ينتقلون بين مكان وآخر، دون إزعاج، رغم أنهم مختلفين، لكن العبرة تكمن في توزع خارطة العمليات الفدائية.

ثالثة هذه المفاجآت أنها أوقعت قتلى وجرحى إسرائيليين دون أن يتمكن الاحتلال من إلقاء القبض على المنفذين، إذ استشهدوا عقب تنفيذ هجماتهم، واحد في بئر السبع هو محمد أبو القيعان، واثنان في الخضيرة وهما ابني العم خالد وأيمن إغبارية، من مدينة أم الفحم، وضياء حمارشة من بلدة يعبد في جنين، مما يعني أن "سرهم دُفن معهم"، بحيث لن تتمكن أجهزة الأمن الإسرائيلية من التحقيق معهم، لمعرفة من يقف وراءهم، وكيف حصلوا على السلاح، وأين تدربوا على استخدامه، وهل نفذوا الهجمات بشكل فردي أم إن خلية أو تنظيماً يوجههم، ومن هو؟

المفاجأة الرابعة أن العمليات جاءت بعد قرابة العام من حملات أمنية واسعة النطاق لـ"تطهير" الداخل المحتل ممن تصفهم أجهزة أمن الاحتلال بالعناصر "الراديكالية"، التي تحمل آراء سياسية وتوجهات قومية، مما يدفع الإسرائيليين إلى طرح السؤال المحرج: كيف أفلت منفذو العمليات من الرادار الاستخباري الإسرائيلي، ونفذوا هجماتهم؟ وأين كانت حملات تعقبهم وملاحقتهم ومراقبتهم؟ هل مارس هؤلاء دوراً تضليلياً على أجهزة الأمن لعدم تركيز الأنظار عليهم، بحيث وقعت الأخيرة في فخ منصوب لها جيداً، وبإحكام، وجاءت نتيجته دامية مدوية؟

ورغم أن العمليات الفدائية الأخيرة جاءت في ذروة استنفار فلسطيني إسرائيلي تحسباً لقدوم شهر رمضان، وكان متوقعاً وقوعها، وإن كان الاختلاف في جغرافيتها، فإن اللافت تمثل في إعلان تنظيم داعش "الإرهابي" مسؤوليته عن إحدى الهجمات، وهو إعلان مفاجئ، ولعله غير مسبوق، على اعتبار أنه لا يملك سجلاً ملموساً في استهداف الاحتلال الإسرائيلي، مما يطرح كثيراً من التساؤلات حول مدى صدقية هذا التبني، ووجود معطيات على الأرض تمنحه مصداقية، أو تنزعها عنه، خاصة وأن هذا الإعلان سبقه تلميح أمني استخباري إسرائيلي لوقوع التنظيم خلف العمليتين.

وطالما أننا تحدثنا أن منفذَي العمليتين استشهدا، وبالتالي فلم تتوفر أمام أجهزة الأمن الإسرائيلية فرصة التحقيق معهم، فكيف حصلت على معلومات أو تقديرات تفيد بتبعية المنفذين للتنظيم، صحيح إن أحدهم اعتقل سابقاً في سجون الاحتلال بتهمة تأييد التنظيم، قبل عدة سنوات، لكن لم يثبت عملياً أن التنظيم يحوز على بنية تحتية عملياتية داخل فلسطين المحتلة تجعله قادراً على التخطيط والإعداد والتسليح والتوجيه بتنفيذ هجمات مسلحة محكمة إلى هذا الحد.

مع العلم أن ذلك الإعلان المزعوم للتنظيم عن تبني عملية الخضيرة جاء في ذات الوقت الذي انعقدت فيه قمة النقب، التي جمعت أربعة من وزراء الخارجية العرب مع نظيريْهم الإسرائيلي والأمريكي، مما حمل رسائل سياسية دفعتهم لإدانة العملية على الفور، لأن بعض بلدانهم اكتوت بنار التنظيم وعملياته داخلها.

أكثر من ذلك، فإن الخبراء الأمنيين الإسرائيليين مقتنعون بأنه لا وجود حقيقي قائم بذاته للتنظيم في إسرائيل، ولا بنية تنظيمية يملكها، لأن إسرائيل ليست من أولوياته، خاصة وأن الحديث يدور عن تراجع التنظيم في المنطقة، وحتى حين كان في ذروته، وحاول بعض الفلسطينيين الانضمام إليه، لكنهم لم ينفذوا هجمات ضد الاحتلال الإسرائيلي، أما اليوم فالتنظيم لا يسيطر على أراضٍ، لا في سوريا ولا في العراق، ولا توجد مناطق خاضعة لنشاطه ونفوذه، وفي معظم الحالات التي حاول فيها الفلسطينيون الانضمام إلى داعش، كانت مبادرة شخصية، وليست عملية تجنيد.

تشير بعض التقارير الإسرائيلية في الساعات الأخيرة إلى أن تبني داعش "الإرهابي" مسؤوليته عن عملية الخضيرة، ومسارعة الجهات الأمنية الإسرائيلية الرسمية إلى تعميم هذه الرواية يعوزه كثير من المصداقية والوجاهة، لأن خلايا التنظيم ذاته، حتى في دول مثل سوريا والعراق، تجد صعوبة في التواصل مع بعضها البعض اليوم، فكيف يمكن التواصل مع مسلحين مفترضين لهم في قلب إسرائيل، فضلاً عن كون أن مواجهة إسرائيل، واستهدافها، لا تحتل أولوية متقدمة لدى التنظيم، الذي يرى في محاربة الأنظمة العربية مسألة تتقدم لديه على ما سواها.

هذه القناعات تعيدنا مجدداً إلى أن تنفيذ فلسطينيّي 48 الهجمات المسلحة ضد أهداف إسرائيلية، لاسيما العسكري منها، ليس وليد اللحظة، بل يعود إلى سنوات طويلة الى الوراء، إذ عمدت قوى المقاومة خلال انتفاضتي الحجارة 1987، والأقصى 2000، إلى توسيع رقعة المناطق الجغرافية لعملياتها من خلال تنفيذها في داخل دولة الاحتلال، بحيث تشمل في هذه الحالة الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس المحتلة، فضلاً عن الأراضي المحتلة عام 1948، في صفد والجليل وبئر السبع. وجاءت عمليات بني براك في تل أبيب مؤخراً لتتثبت أن دوافع هذه العمليات محلية وليس لها ارتباطات خارجية، ولتعيد توجيه البوصلة من جديد نحو أصل المشكلة والمتمثل في الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وسعيه المتواصل لحرمان الفلسطينيين من حقوقهم الإنسانية والسياسية.

لقد نجحت المقاومة الفلسطينية في سنوات سابقة في نقل جزء من بنيتها التنظيمية، وتوسيع دائرة المشاركة إلى داخل الأراضي المحتلة عام 1948، من خلال تجنيد عدد من الشبان في صفوفها، ولوحظ تصاعد منهجي تدريجي في النشاطات المسلحة التي يشارك فيها فلسطينيو48، وبدأ هذا الاتجاه في مطلع التسعينات، واستمر مع انهيار اتفاق أوسلو، ليصل إلى ذروته منذ اندلاع انتفاضة الأقصى.

وأشارت وثيقة أمنية صادرة عن مؤتمر هرتسليا الرابع إلى عدة مظاهر رئيسية لهذه النشاطات تتجلى في تقديم العون والمساعدة، كإيواء وإخفاء مقاومين، ونقل مسلحين من غزة والضفة إلى داخل الخط الأخضر، وجمع معلومات استخبارية، وتهريب وبيع وسائل قتالية، وتقديم مساعدات لوجستية والتجسس وغيرها، وتزايد عدد فلسطينيي 48 الذين يمارسون النشاطات المسلحة سواء في مجال التخطيط أوالتنفيذ، أو التخطيط والتنفيذ.

وكشف جهاز الأمن الإسرائيلي العام الشاباك عن إلقاء القبض على العشرات من الخلايا المسلحة داخل الخط الأخضر خلال سنوات انتفاضة الأقصى تنتمي إلى مختلف فصائل المقاومة، وأشارت التحقيقات في معظم العمليات والهجمات المسلحة التي وقعت في فلسطين المحتلة عام 1948، أن مشاركة فلسطينيي الداخل في العمل المقاوم تميزت بظاهرتين مركزيتين.

أولهما في التنفيذ، فعملت بعض الخلايا منفذي عمليات، وتحملوا جزءاً من التنفيذ، وهذا يدل على زيادة طابع التوجه إلى التنفيذ، سواء كان ذلك خطف جنود، أو إطلاق نار، أوطعن، ويمكن الإشارة هنا إلى الاستشهادي الأول من فلسطينيي 48، وهو شاكر حبيشي، الأب لسبعة أطفال، الذي فجر نفسه على رصيف محطة القطارات في مدينة نتانيا، وقتل 3 إسرائيليين، وأصاب 46 آخرين. وثانيهما في المساعدة، فقد ساعد فلسطينيو الداخل بتنفيذ عمليات فدائية من خلال جمع معلومات عن أهداف إسرائيلية مقترحة لعمليات محتملة، كالمساعدة في البحث عن مجندين جدد، ونقل وسائل قتالية من الخارج ومن إسرائيل إلى المنظمات الفلسطينية في الضفة والقطاع.

إن هذه الشواهد وسواها تؤكد أن حق المقاومة المكفول وفق القوانين الدولية والشرائع السماوية، يشمل كل الفلسطينيين في كل أماكنهم، ولكل بقعة جغرافية خصوصيتها، وقدرتها على اختيار الشكل المناسب من المقاومة، أخذاً بعين الاعتبار ظروفها الذاتية والموضوعية، وهو ما يشمل أيضاً فلسطينيّي 48. ففلسطينيو 48 جزء أصيل من الشعب الفلسطيني، ورغم محاولات أسرلته إلا أنه مازال مرتبطاً بقضايا وطنه وشعبه.

إن فلسطينيّي 48 المنتشرين في مدن يافا وحيفا واللد والرملة والنقب وأم الفحم وبئر السبع، يواجهون صنوفاً عديدة من التمييز العنصري الذى تمارسه دولة الاحتلال ضدهم، واعتبارهم مواطنين من الدرجة العشرين، في حين تسمح للمستوطنين بسرقة أراضيهم، والاستيلاء على حقولهم ومزارعهم، وتدنيس مساجدهم، مما يجعل مقاومتهم حقاً مشروعاً من جهة، ومن جهة أخرى إعلاناً عن فشل مشاريع الأسرلة والتهويد وغسيل الدماغ الذي مارسته عليهم دولة الاحتلال طيلة أكثر من سبعة عقود، بعيداً عن محاولات الاحتلال لربط هذه المقاومة المشروعة بأجندات خارجية ليس لها رصيد من الواقع من جهة ثالثة.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً