رئيس النظام السوري بشار الأسد في استقباله وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في العاصمة السورية دمشق (Others)
تابعنا

تلك التوترات أكدت بما لا يدع مجالا للشك أنّ الهدف الاستراتيجي لروسيا ليس حماية نظام الأسد أبداً، وإنما كسر الحصار المفروض عليها من الناتو والخروج من الدرع الصاروخية عن طريق بناء قاعدة حميميم التي أصبحت رأس حربة لروسيا، إذ مكّنت موسكو من تهديد أوروبا، باعتبارها الأقرب في الحوض الشرقي للبحر المتوسط.

قاعدة حميميم أصبحت أيضاً على مقربة من قواعد حلف شمال الأطلسي في إيطاليا وقبرص واليونان وتركيا وقد تشكل تهديداً لتلك القواعد وبالتالي فهي تشكل الخطر الأكبر على حلف شمال الأطلسي منذ إعلان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في نهاية عام 2017 أنّ "القائد الأعلى للقوات المسلحة وافق على هيئة وقوام نقاط المرابطة في طرطوس وحميميم. ونحن بدأنا بتشكيل مجموعة هناك على أساس دائم".

وفي حين يسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى استعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي في الشرق فإنّ ورقة خط الغاز "نورد ستريم" حاضرة لتهديد أوروبا في الوقت الذي تحولت فيه القارة الأوروبية إلى الغاز الطبيعي، وهذا يعني أنّه لوّح بورقة اقتصادية مهمة في حال وافقت على دخول أوكرانيا إلى حلف الناتو، وهذا ما دفع بعض دول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها فرنسا إلى قطع وعود بعدم التصويت على دخول أوكرانيا إلى الناتو.

إذن فالرئيس الروسي أعد العدة لمواجهة كل الدول التي تشكل خطراً على مشروعه التوسعي من خلال ورقتين إحداهما عسكرية والثانية اقتصادية، تصب جميعها في خانة الابتزاز السياسي، إلا أنّ باب الخيارات أمام الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا مفتوح على مصراعيه، ففي واشنطن طالب أعضاء في الكونغرس الأمريكي بمنع افتتاح خط الغاز "نورد ستريم2" وحذروا من أن خط الأنابيب الجديد قد يسمح لموسكو بممارسة نفوذ أكبر على القارة الأوربية، وتجويع أوكرانيا من خلال فقدان رسوم العبور التي تحصل عليها من خلال شبكة خطوط الأنابيب الحالية، التي تعتبر بالغة الأهمية لاقتصاد كييف، وهذا ما أكده الرئيس الأمريكي جو بايدن عندما اعتبر أنّ "نورد ستريم 2" لن يمضي قدماً إذا غزت روسيا أوكرانيا.

أمّا في سوريا فإنّ المناورات العسكرية التي تنوي موسكو تنفيذها لا تعدو كونها استعراض قوة أمام حلف شمال الأطلسي وإن كانت الأسلحة التي نقلتها روسيا إلى قاعدتي حميميم وطرطوس تضم مقاتلات من طراز "ميغ 31 ك" الحاملة لصواريخ "كينغال" الأسرع من الصوت، وقاذفات "تو 22 م"، فكل الأطراف بما فيهم روسيا يعلمون أنّ الحرب على كييف ستتحول إلى حرب عالمية ثالثة قد تمتد لفترة غير قصيرة، لذلك حملت تركيا على عاتقها مهمة السعي إلى حلول دبلوماسية، وأعلنت عبر وزير خارجيتها مولود جاوش أوغلو، استعدادها لاستضافة اجتماعات بين روسيا وأوكرانيا، وهذا ما عكسه اتصالان منفصلان أجراهما "أوغلو" مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، والأوكراني دميترو كوليبا.

في سوريا ليست القواعد الروسية هي الوحيدة التي تشكل قوة عسكرية لموسكو، فالتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والذي تشارك فيه أوروبا يمتلك قواعد ضخمة تهدد روسيا أيضاً، فضلاً عن أنّ إسرائيل قادرة على الوصول إلى القواعد الروسية وهذا ما يؤكده القصف الإسرائيلي الذي طال ميناء اللاذقية على بعد مئات الأمتار من قاعدة حميميم الروسية، وبالتالي فإنّ روسيا مهددة عسكرياً في سوريا أيضاً.

لا تريد أوروبا الظهور بموقف ضعيف أمام موسكو لذا جاء تحذير الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ من أن أي عدوان جديد من روسيا على أوكرانيا سيقود إلى تعزيز وجود الحلف الأطلسي وليس إلى خفضه، وهذا يعني أيضاً أن الناتو سيعزز وجوده ضمن التحالف الدولي في سوريا لتتحول المهمة من محاربة الإرهاب إلى محاولة وقف أي تهديد عسكري روسي ينطلق من سوريا، وبالتالي فإنّ توسيع نطاق المعركة إن قررت روسيا البدء بها، خيار قائم أمام الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية.

لم يوصد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي الباب أمام موسكو، بل ترك خط عودة عندما وضع روسيا أمام مفترق طرق عندما قال إنّه عليها أن تختار بين الحل الدبلوماسي للأزمة الأوكرانية أو العقوبات الاقتصادية من الغرب وزيادة الوجود العسكري لقوات الأطلسي في دول الحلف الشرقية، ويبدو أنّ هذا التصعيد الأوروبي الأمريكي أمام روسيا لن يطالها هي فقط، بل أيضاً سيطال الحلف الذي يحاول بوتين تشكيله مع إيران والصين، وبالتالي فإنّ جنوح الرئيس الروسي نحو الحلول الدبلوماسية هو الأقرب للواقع من الحلول العسكرية.

تلك الحلول الدبلوماسية التي يرجح أن تقودها تركيا ستكون مخرجاً مناسباً لروسيا، ومخرجاً مناسباً للولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، ومخرجاً أيضاً لأوكرانيا، إلا أن الثمن الباهظ ستدفعه كييف، إذ إنّ الشرط الأساسي الذي تريده موسكو هو عدم دخول أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، إلا أنّه لا يعتبر كبيراً في حسابات الحقل والبيدر إذا ما وضع في ميزان الحروب.

ويبقى الثابت في تلك الأزمة الدولية أنّ روسيا تنظر إلى سوريا على أنّها قرم ثانية لها، تمكنها من الوصول إلى المياه الدافئة وكسر الحصار المفروض عليها من حلف الناتو، والثابث أيضاً أنّ التدخل الروسي في سوريا يحمل أبعاداً أكبر من حماية النظام السوري ومنعه من الانهيار، فسوريا بالنسبة إلى الروس تشكل موقعاً جيوسياسياً على البحر المتوسط، وهي إحدى جبهات الحرب الباردة، لكن إن اقتضت الحاجة لروسيا فإنّها من السهل أن تضحي ببيدقها بشار الأسد إذا ما ضمنت بقاء مصالحها السياسية والعسكرية في سوريا، واستطاع بوتين الحصول على دور أكبر في الملفات الدولية يتمكن من خلاله من فرض نفسه كلاعب ند أمام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً