دبابات شوهدت خلال جولة إعلامية في مصنع ماليشيف لهندسة النقل في خاركيف (Vyacheslav Madiyevskyy/Reuters)
تابعنا

في كتاب رقعة الشطرنج الكبيرة"(صدر قبل خمس وعشرين سنة ونيف) للمستشار زبينيو برزنسكي، الذي ترأس المجلس الأعلى القومي الأمريكي لفترة، اعتبر فيه المؤلف التحولات التي عرفتها منطقة أوراسيا، أو تلك التي كانت تدور في رحاب الاتحاد السوفييتي، غداة سقوط حائط برلين، ثقباً أسود وبؤرته أوكرانيا.

يحذر من عودة الاضطراب ليس من دائرة الآيديولوجيا السوفيتية، بل مما سماه "الفكرة الروسية". ومدار الفكرة الروسية نزوع امبريالي، فالفكرة الروسية (Rossyanim) ليست قصراً على الروس (Russkyi) بل من هم في دائرة النفوذ الروسي، ويستشهد برزنسكي بقومي روسي، يأسى لحالة التفكك التي عرفها الاتحاد السوفيتي ولكنه يتنبأ بعودة الفكرة الروسية من بوابة الدولة الروسية سياسياً واقتصادياً وروحياً. ستعيد الدولة الروسية ما قام لألف سنة، وإلى ما انتظم لسبعين سنة من التاريخ السوفييتي، واندثر لفترة.

يضيف برزنسكي في تحليله الذي يحافظ على راهنيته، أن العلاقة المحتملة ما بين روسيا والغرب، لا تخرج عن سيناريوهات ثلاثة، أولها سيناريو الشراكة الاستراتيجية الناضجة، وهو احتمال ضئيل، ثم سيناريو ثانٍ وهو انشغال روسيا بالجوار القريب، في شراكة قريبة من الهيمنة السوفييتية من شأنه أن يهدد أوروبا والولايات المتحدة على المدى الطويل، والسيناريو الثالث هو تحالف مضاد لتقليص دور الولايات المتحدة في أوراسيا.

لم يخطئ برزنسكي في تحليله ولا في تنبؤه. نحن في عودة "الفكرة الروسية" ونزوعها الإمبراطوري أو التوسعي، وفي دائرة السيناريو الثاني والثالث. ليست أوكرانيا إذن إلا الحلقة الأولى من لعبة طويلة الأمد. ولذلك لا تكتسي أزمة أوكرانيا حالة توتر منفرطة أو معزولة، بل جزءاً من لعبة استراتيجية معقدة.

كثير من القضايا الدولية لا يمكن فهمها من دون ما يسمى بالتاريخ العميق. فها هو الثقب الأسود يعود من أجل بعث "الفكرة الروسية"، من بوابة أوكرانيا التي تعتبرها القومية الروسية امتداداً لها. لكن هل يمكن للحرب أن تكون أداتها؟ وهل نحن أمام سيناريو أفغانستان، أي احتلال شامل، مع خطر الغرق في مستنقع أشد وطأة من أفغانستان؟ أم حرب محدودة على إقليم دونباس المتاخم دعماً للأقلية الموالية لموسكو؟ أم سيناريو خليج الخنازير، حين وضع الاتحاد السوفييتي صواريخ نووية في كوبا بداية الستينيات من القرن الماضي، في أكبر أزمة عسكرية ذات طابع نووي بعد الحرب العالمية الثانية؟ هل التلويح بالمواجهة، أو ما يسميه الخطاب الروسي "التكهنات الاستفزازية" من أجل الدفع إلى المفاوضة؟

نحن في لب أزمة أكبر من ضم القرم، تدعو الأوروبيين إلى ما يسمونه الصحوة الجيوستراتيجية.

تتسارع الأحداث، بحيث يمكن لكل التحاليل الأقرب إلى دائرة الأحداث أن تصبح متجاوزة. لكن الذي لن يكون متجاوزاً، هو أن الأزمة الأوكرانية تَحوّل في العلاقات الدولية. هي أكبر أزمة عسكرية يتعرض لها الغرب، بعد سقوط حائط برلين، عدا حرب الخليج، وأنها تكتسي طابعاً درامياً، بمعنى أنه سيكون هناك ما قبل وما بعد.

لا شيء جديد من منظور التاريخ العميق. الجغرافيا محدد في السياسية الخارجية وكذا الثقافة السياسية، أكثر من الآيديولوجيا. الجغرافيا والثقافة السياسية، محددان ثابتان، أما الآيديولوجية متحولة. نعم لم تعد روسيا تأتم بالآيديولوجية الشيوعية، ولكنها تحلم ببسط سيطرتها على ما تعتبره مجالها الحيوي، وما تراه جزءاً من الفكرة الروسية، ذات النزع الإمبراطوري أو التوسعي، وتشعر بملازمة التطويق وتنحو نحو المياه الدافئة منذ عهد القياصرة.

توجد طبعاً مخلفات الحرب الباردة التي لم تُصفَّ كدَين لم يؤد، وهي التي تعود الآن، ذلك أن روسيا لم تغفر للغرب ليس فقط إبقاءه على الحلف الأطلسي بل توسيعه في معصم روسيا واعتبرت روسيا أوكرانيا خطاً أحمر.

يذكر المتتبعون أن شهر العسل انتهى ما بين روسيا والغرب، في اجتماع الأمن الذي انعقد بميونيخ في فبراير/شباط 2007 حينما أخرج بوتين المسؤولين الغربيين من سباتهم في خطاب يذكر بلهجة الحرب الباردة، وينتقد الهيمنة الغربية والتنميط الأمريكي.

للغربيين قراءة لروسيا، وهي أن بوتين لا يزال مسكوناً بسردية الحرب الباردة، وأنه يلجأ إلى القوة ليخفي المشاكل الداخلية لروسيا. فروسيا من الناحية الاقتصادية تظل قزماً واقتصادها لا يختلف عن اقتصاديات دول العالم الثالث، يقتصر على تسويق المواد الأولية.

التوتر أكثر من حدث عابر، بل بنيوي واستراتيجي.

آخر الأخبار تشي بأن الحرب محتملة، وأن التجييش على الحدود الشرقية لروسيا ينذر باجتياح وشيك، وتصريح وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن في أستراليا بأن الاجتياح قد يقع في أي وقت، وفشل الرئيس الفرنسي، الذي التقي فلاديمير بوتين في مساعيه يؤكدان الاحتمال.

المواجهة إن حدثت فستكون أكبر اختبار للغرب بعد الحرب العالمية الثانية، يزري بالحروب الساخنة التي وقعت بعيداً عن أوروبا، في كوريا وفيتنام، والشرق الأوسط. ستكون المواجهة في عُقر أوروبا، تهديداً لها ولمنظومتها. ستكون أكبر اختبار يهزأ بالهيمنة الغربية، والسؤدد الأمريكي منذ حرب الخليج سنة 1991. ستكون أكبر اختبار يظهر عجزها عن تطبيق "النظام العالمي الجديد" الذي وعدت به.

خلت أوروبا من الحروب، بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تعرف سوى التوتر الذي ينجم عن فوران قواها الحية، أو في الحد الأقصى الحرب الأهلية لما كان سابقاً يوغوسلافيا. أما الآن فالحرب إن اندلعت ستدور في حضنها وتهدد أمنها. الحرب إن وقعت ستغير الخارطة السياسية الغربية، وسلم الأولويات والعلاقات الدولية. الحرب إن وقعت سيبلغ شظاها المحيط القريب، جوار روسيا وأوكرانيا، وبدرجة أولى تركيا، التي تسعى جاهدة لإخماد الفتيل.

الحرب إن وقعت ستغير من طبيعة العلاقات ما بين الدول الغربية، والمجموعات الحضارية التي ليست غربية، وقد تجدها فرصة تهتبلها لفضح نفاق الغرب واستعلائه ووصايته، كما الصين وإيران. الحرب إن وقعت فسيبلغ مداها العالم العربي، الذي يتوزع الولاء فيه للولايات المتحدة والغرب من جهة، وانتعاش العلاقات لبعض الأطراف مع روسيا من جهة أخرى. وليس مستبعداً إن نشبت الحرب أن تمتد ساحتها إلى العالم العربي.

الحرب إن وقعت فسيبلغ مداها إفريقيا. الحرب إن وقعت فستكون شرارة حرب عالمية. حرب عالمية لقوى نووية.

ولذلك لن تقع. أو ستقع من دون مواجهة عسكرية مباشرة.

لا يُخشى من مناوشات، أو انفلات، لأن قرار الحرب بيد شخص واحد، وهو بوتين، ومن العسير أن يغامر.

هو يعرف ما التكتيك وما الاستراتيجية، واختار الظرف بعناية، فالغرب مشتت الجهود مع التحدي الصيني والملف الإيراني وبقايا الجهاد العالمي، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية. ألا تكون الحرب والتلويح بها استمرارية للسياسة، قلباً للمقولة الشهيرة للاستراتيجي الألماني كلاوس فيتز؟

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً