تابعنا
لم يكن للتوظيف السياسي لقضايا التعليم من ضحية إلا المواطن العادي، الذي وجد نفسه وسط تجاذبات لا قبل له بها، ولا قدرة له على تغييرها، ولم يجنِ من ذلك إلا انخفاضاً في مستوى المعارف، وبطئاً في الفهم وبناء الأفكار وخلق وعي ناضج ومسؤول.

يُحكى -والعهدة على الراوي- أن الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة سأل الزعيم الليبي الهالك معمرالقدافي: لماذا تستثمر أموالك في السلاح ولا تستثمرها في التعليم؟ فأجاب القذافي: أعلّم شعبي كيف يثور عليّ في يوم من الأيام، فما كان من بورقيبة إلا أن عقب على جواب الزعيم الليبي: يثور عليك شعب مثقف أفضل من أن يثور عليك شعب جاهل..

في أواسط السبعينيات شهدت الساحة الفنية في مصر إنتاج واحدة من أشهر المسرحيات في تاريخ الفن العربي، "مدرسة المشاغبين" لكاتبها محمد سالم، عرفت نجاحاً لم تشهده أي مسرحية بعدها إلى اليوم بعد أكثر من أربعين سنة، ويعلم الجميع أن المسرحية تتناول واقع التعليم في بلادنا والعلاقة بين المدير والأستاذ والتلميذ، والتي يطبعها التوتر والاستغباء والتخلف.

يُسخّر السياسيون التعليم كأداة لتحقيق مصالح سياسية معينة بدلاً من مهماتها الأصلية وهي مهمات تربوية ومعرفية بالأساس.

محمد عبد الوهاب رفيقي

بغض النظر عن صدق ما روي عن الزعيمين العربيين من عدم ذلك، وبغض النظر عن مدى توفيق المسرحية في تصوير الواقع، فإنهما من المؤكد يعبران عن واقع ارتباط السياسة بالتعليم في بلادنا العربية، أو بالأصح عن مدى تسخير السياسيين للتعليم كأداة لتحقيق مصالح سياسية معينة، بدلاً من مهماتها الأصلية، وهي مهمات تربوية ومعرفية بالأساس، وعن الصورة التي يود السياسي تسويقها عن المعلم تحقيقاً لأهدافه الخاصة ومصالحه في الحكم.

فكيف نشأت العلاقة بين التعليم والسياسة في تاريخنا المعاصر؟ وكيف كان تأثير هذه العلاقة على مستوى التعليم في بلادنا؟ وهل المطلوب تقوية هذه العلاقة أو فك الارتباط بينها لتجويد مستوى التعليم واحتلالنا لمراتب محترمة في التصنيفات العالمية؟

يمكن أن نقول بأن تاريخ هذا الاشتباك يبدأ مع حالة الاصطدام التي عرفتها مجتمعاتنا الإسلامية بين نظمها التقليدية وبين ما جاء به الاحتلال من قيم ونظم حديثة وليدة سياقاتها التاريخية والاجتماعية، وكان التعليم واحداً من تجلّيات هذا الاصطدام، فقد أحدث الاحتلال نظام المدارس العصرية بمضامين وأساليب غير معتادة، وهو ما وجد مقاومة شرسة وسط بنية تقليدية تعتمد أساليب الكتاتيب والمدارس القرآنية العتيقة للتعليم والتوجيه، حتى كان كثير من الفقهاء والوطنيين يحرّمون الالتحاق بهذه المدارس، ويحذرون من ولوجها، بلغ الأمر في بعض البلاد العربية إلى حد اغتيال من يغشى هذه المدارس ويسجل أبناءه في قوائمها، كانوا يرون في استحداثها ليس فقط تهديداً لبنية المدارس التقليدية، بل تهديداً للهوية ونذيراً باختراقها.

كان من حسنات الاحتلال قراره تعميم التعليم، وهو ما جعل فئات كثيرة تستفيد من ارتفاع وعيها وتحسّن مستوى معارفها، لكن الاحتلال كأي احتلال لم يكن بريئاً في حرصه على ذلك التعميم، بقدر ما كان يهدف إلى تصدير إيديولوجيته وأفكاره داخل هذه المستعمرات، بل أكثر من ذلك، فاللغة قاطرة مهمة نحو الاقتصاد، وقد وعى الاحتلال ذلك، فعمل بجد على تعلم أبناء الشعوب المستعمَرة للغة المستعمِر، وقد عبر عن ذلك الجنرال الفرنسي ديغول حين قال: من يتحدث الفرنسية يستهلك بالفرنسية، وذلك ما ولد صراعات داخلية بين نخبة عصرية ومقاومة تقليدية.

نشاط الحركات الثائرة اليسارية في السبعينات كان يتركز بالمؤسسات التعليمية ما جعل أعظم الاحتجاجات التي عرفها العالم العربي تلك الفترة منبعثة من المدارس والجامعات.

محمد عبد الوهاب رفيقي

فترة ما بعد الاحتلال شهدت صراعاً من نوع آخر كان التعليم واحداً من ساحاته الكبرى، فقد عرفت البلاد العربية مواجهات معروفة بين أنظمة شمولية وحركات ثائرة متأثرة بالمد اليساري الذي عرف أوجَهُ فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وكانت هذه الحركات تَعد التعليم المحضن الأول لما يرونه رجعية وتخلفاً وعاملاً من عوامل تكريس الاستبداد، وهذا ما جعل نشاطها وقتئذ يتركز بالمؤسسات التعليمية، فلا عجب أن تكون أعظم الاحتجاجات التي عرفها العالم العربي تلك الفترة منبعثة من المدارس والجامعات.

كانت حركات التمرد هذه وما تلاها من انقلابات ومحاولات الانقلاب في عدد من هذه الدول، سبباً في تنبُّه الأنظمة الشمولية للخطر الذي يشكله التعليم ومؤسساته على وجودها، فلذلك سعت للاستيلاء على مراكز القوة في هذا الباب، بتشجيع التعليم التقليدي ودعمه، وتهميش كل المواد التي من شأنها رفع الحس النقدي لدى الطالب كالفلسفة وعلوم الاجتماع، وتعويضها بمواد لا يستدعي الإلمام بها سوى الحفظ والاستظهار، وكانت اللغة واحدة من أدوات الصراع، بين مُصرّ على تعريب كل المواد الدراسية لوعيه بأن العربية في وضعها الحالي لن تكرس سوى مزيد من الخنوع والاستسلام، وداعٍ إلى اعتماد اللغات الأجنبية لما تحمله معها من قيم عصور الأنوار والتحرر وما تربيه من ملكات النقد والسؤال.

كان هذا الصراع سبباً في تدخل الدول بقوة لتأميم التعليم وتعميمه، حتى تكون المدرسة بكل أقسامها تحت سلطة الدولة وإيديولوجيتها، صاحبَ ذلك تغيير المناهج بما يتلاءم وهوى السلطة وأهدافها، والأسوأ من ذلك كله تسفيه الأستاذ، وتصويره لدى الناس بمظهر الغبي المتخلف الذي يتجرأ عليه التلاميذ ولا يراعون له حرمة ولا قيمة، ومن هنا كان ذلك التسويق لمسرحية "مدرسة المشاغبين" التي زرعت في خيالنا صورة التلميذ الغبي المتمرد والأستاذ المتخلف والمدير الانتهازي، وقد كان هذا التصوير جزءاً من الصراع السياسي القائم بساحات التعليم ومؤسساته.

في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات عرفت البلاد العربية نظام البعثات الدراسية نحو الخارج، بين متجه نحو المشرق ومتجه نحو المغرب، ليعود كل طرف بإيديولوجية مختلفة حاول فرضها وتمريرها عبر مراكز القوى ومواقع السياسة.

عمد السياسي إلى تهميش دور التعليم عن قصد لما كان يرى فيه من خطر على مشروعه ومصالحه ولذلك تجد ميزانيات التعليم في أغلب دولنا من أضعف الميزانيات.

محمد عبد الوهاب رفيقي

كل هذا التوظيف السياسي لقضايا التعليم لم يكن له من ضحية إلا المواطن العادي، الذي وجد نفسه وسط تجاذبات لا قبل له بها، ولا قدرة له على تغييرها، ولم يجنِ من ذلك إلا انخفاضاً في مستوى المعارف، وبطئاً في الفهم وبناء الأفكار، فضلاً عن خلق وعي ناضج ومسؤول يستطيع به المساهمة في تغيير الأوضاع القائمة.

لقد عمد السياسي إلى تهميش دور التعليم عن قصد، لما كان يرى فيه من خطر على مشروعه ومصالحه، ولا عجب أن تجد ميزانيات التعليم في أغلب دولنا من أضعف الميزانيات، حيث يُرصد للتسليح أضعاف ما يرصد للتعليم، فضلاً عن التوجه نحو إلغاء مجانية التعليم، تبعاً لتوجيهات البنوك العالمية وصندوق النقد الدولي، مما يجعل أزمة التعليم مستمرة وغير قريبة الحل.

لا يستثنى من هذا الوضع القاتم بعض دول الخليج التي بذلت أموالاً ضخمة من ميزانياتها لدعم التعليم ومؤسساته، حتى صُنفت ضمن الدول الأولى عالمياً في جودة التعليم، وصنفت بعض جامعاتها في مراتب متقدمة ضمن جامعات العالم، لكن المال يستطيع أن يصنع كثيراً من المظاهر الجذابة، دون أن يكون لذلك تغيير في العمق، ولا أثر على صناعة الأجيال، وهو ما نراه للأسف واقعاً بهذه الدول التي يعاني تعليمها رغم كل ما رصد له من إمكانيات من غياب الهوية والرؤية والإستراتيجية.

إن هذا التداخل بين الإيديولوجيا والسياسة من جهة، والتعليم من جهة أخرى، هو ما جعل كل حزب بلغ سدة الحكم يسعى عبر التعليم لفرض إيديولوجيته وأفكاره، عبر تغيير المناهج والمضامين وطرق التدريس، حتى إذا تنحى عن السلطة لحزب آخر، جاءنا الحاكم الجديد بمناهج ومضامين وطرق متناسقة مع مشروعه وإيديولوجيته، والنتيجة وعي مشوه، وتضييع للأوقات، وإشكالات سياسية واجتماعية واقتصادية، يؤدي ثمنها الشعب وحده.

التعليم في الغرب هو مجال إنتاج واقتصاد، ومجال للتحدي والاستثمار، لكنه في بلادنا صراع هوياتي وحلبة سياسية لا آفاق لها ولا إستراتيجيات واضحة الهدف والوسائل، وهو ما يجعل الاتفاق قائماً عند كل متابع للملف، دون خلاف على أننا نعاني أزمة كبيرة في التعليم، لكن لا أحد يملك الحل.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي