المتظاهرون في ساحة حبيمة في تل أبيب يحضرون خطاب فيديو متلفزًا للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في الكنيست الإسرائيلي (AFP)
تابعنا

من الصعوبة بمكان الحديث عن سبب واحد وحيد لهذا التراجع المتسارع في علاقات موسكو مع تل أبيب، رغم أن موقف الأخيرة الذي ظهر في حالة اصطفاف غربي بجانب كييف، ربما شكّل صدمة للروس الذين يعلمون أكثر من سواهم حجم الخدمات التي قدّموها للإسرائيليين، لا سيما من خلال التسهيلات التي يقدمونها للطيران الإسرائيلي الذي ينتهك الأجواء السورية على مدار الساعة، بحصوله على ضوء أصفر، وأحياناً أخضر، من الجيش الأحمر الذي يسيطر على معظم أراضي الدولة السورية، وبإمكانه، إن أراد، أن يعوق الطلعات الجوية الإسرائيلية في تلك الأجواء.

منذ ما قبل إطلاق القذيفة الروسية الأولى باتجاه أوكرانيا في الأسبوع الأخير من فبراير، شهدت الأوساط السياسية والدبلوماسية، حتى العسكرية والأمنية، الإسرائيلية نقاشات عاصفة، كُشف النقاب عن بعضها في عدة مناسبات، حول الموقف من الأزمة التي تشهدها أوروبا الشرقية، قبل أن تنتقل إلى مرحلة الحرب، ولم يكُن سرّاً حينها أن الموقف الإسرائيلي انقسم إلى قسمين، وما زال الانقسام قائماً حتى كتابة هذه السطور.

الموقف الأول تَصدَّره وزير الحرب بيني غانتس والمؤسسة العسكرية التي يقودها، وتعلم أن مصالحها مع الروس، في سوريا تحديداً، تتطلب موقفاً متوازناً قدر الإمكان من الأزمة الروسية-الأوكرانية المتصاعدة، حفاظاً على تلك المصالح، وخشية من غضب الكرملين، دون أن تصل الأمور إلى موافقة الروس على حربهم، فهذا موقف يفوق قدرة إسرائيل على التحمل، رغم أن روسيا في حربها هذه، تشبه إلى حد كبير سلوك إسرائيل العدواني ضد الفلسطينيين، وهذا تَماهٍ تسعى إسرائيل لتجاوزه بنظر المجتمع الدولي الذي سارع لفرض عقوبات على موسكو، لكنه عجز عن ذلك أمام إسرائيل بسبب الفيتو الأمريكي.

الموقف الثاني قاده وزير الخارجية يائير لابيد والمؤسسة الدبلوماسية والنخب الفكرية والثقافية الإسرائيلية من خارج الوزارة، لكنها تمثّل النسق الإسرائيلي السائد، وقد وجدوا أنفسهم في حالة اصطفاف مع المنظومة الغربية، وبلا تحفُّظ، في رفض الهجوم الروسي، وتأييد أوكرانيا، وإمدادها بما تريد من دعم سياسي وإعلامي وإغاثي، وربما عسكري في فترة لاحقة، مع العلم أن لابيد، ذا التوجهات العلمانية الليبرالية، وهو يصطفّ مع واشنطن في معاداتها لموسكو، يحاول تهيئة نفسه ليكون زعيماً إسرائيلياً قادماً مقبولاً لدى دوائر صنع القرار الدولي، الغربي منه بخاصة.

قد يبدو السؤال مشروعاً عن الموقف الذي اتخذه نفتالي بينيت رئيس الحكومة، الذي سعى لمحاولة المواءمة بين الحفاظ على المصالح العسكرية الإسرائيلية مع روسيا في سوريا، وفي الوقت ذاته عدم إغضاب واشنطن منه، وفي سبيل ذلك انخرط مبكراً في جهود الوساطة بين موسكو وكييف، وظهر أنه "ناقل رسائل" ليس أكثر، ومع ذلك فلم تنجح وساطته، مما دفعه إلى وقف جهوده في سبيل إنجازها.

مع مرور الوقت ظهر الموقف الإسرائيلي أكثر فرزاً، وأكثر صعوبة بالجلوس على أريكتين في وقت واحد، أو الاستمرار في "اللعب بالبيضة والحجر"، بسبب تطورات الحرب المتسارعة، وارتفاع حدة العقوبات الغربية ضد روسيا، ووصول مطالب أمريكية إلى تل أبيب بضرورة تحديد موقفها من الحرب، بعيداً عن المواقف "الزئبقية" المتأرجحة المترددة، مما وجد طريقه في جملة من السلوكيات الإسرائيلية اللافتة التي أوصلت علاقاتها مع موسكو إلى هذا المستوى من التدهور غير المسبوق.

أولى هذه المسلكيات السياسية انضمام إسرائيل إلى المنظومة الغربية في تأييد تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، مروراً بالسماح للرئيس الأوكراني زيلينسكي بإلقاء خطاب أمام الكنيست الإسرائيلي، وما تَضمَّنه من إساءات لروسيا قوبلت بالتصفيق من النواب الإسرائيليين، وصولاً إلى اتهام موسكو بارتكاب مجازر وحشية ضد الأوكرانيين خلال عمليات القصف، وانتهاءً بالكشف الروسي عن وجود مرتزقة إسرائيليين يقاتلون في أوكرانيا، وتدريبات عسكرية يقوم بها ضباط إسرائيليون للمقاتلين الأوكرانيين، وأخيراً تعليق إسرائيل قرار رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو منح روسيا الوصاية على أرض الكنيسة الأرثوذكسية في القدس المحتلة.

الروس من جهتهم لم يقفوا مكتوفي الأيدي وهم يرون تصاعد الخطوات الإسرائيلية ضدهم، فقد سارعت الخارجية الروسية لإصدار موقف غير معهود، يُدِين فيه الاحتلال الإسرائيلي بوصفه "أطول" احتلال في التاريخ، وهي لغة لم يسبق لموسكو أن استخدمتها في الإشارة إلى إسرائيل، حتى في ذروة دعمها لمنظمة التحرير الفلسطينية في عقود سابقة، مروراً بالإعلان أن استمرار احتلال إسرائيل لهضبة الجولان السورية ليس مقبولاً، ومناقض للقانون الدولي، وصولاً إلى إصدار وزير الخارجية سيرغي لافروف تصريحاً تَسبَّب بصدمة لدى الإسرائيليين حين أعلن أن الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر له جذور يهودية، مما يفسر دعم إسرائيل للنازيين الجدد في أوكرانيا، وفق توصيف لافروف ذاته (وهو ما اعتذرت روسيا عنه لاحقاً)، وانتهاء باستقبال موسكو لوفد من قيادة حركة حماس، في وقت تخوض فيه الحركة وإسرائيل مواجهة تدريجية في الأراضي المحتلة.

في غمرة تبادل الاتهامات الجاري بين موسكو وتل أبيب، جرى اتصال هاتفي بين فلاديمير بوتين ونفتالي بينيت ربما جاء لـ"ترطيب الأجواء"، وتهدئة الخواطر، ومحاولة كبح جماح هذا التوتر المتصاعد، دون أن يعني بالضرورة طي صفحة خلافاتهما، لا سيما وأن سبب هذه التباينات من الأساس هو حرب أوكرانيا، وما دامت مستمرة، وليس لها أفق لنهايتها بعد، فيمكن استشراف مزيد من الإشكاليات الثنائية المتفاقمة.

ارتباطاً بما سبق، ربما تشكّل دمشق العاصمة الأكثر تأثراً بالخلافات الناشبة بين موسكو وتل أبيب، على اعتبار أن السنوات الماضية، وتحديدا منذ 2015، مع بدء التدخل الروسي في الأزمة السورية، شهدت إنشاء ما يمكن تسميته "غرفة عمليات مشتركة"، لتنظيم عمليات سلاح الجو الإسرائيلي ضد القواعد الإيرانية في الأراضي السورية، وشحنات الأسلحة المتجهة من طهران إلى بيروت مروراً بدمشق، الأمر الذي يطرح علامات استفهام جدية حول مدى النتائج المترتبة لخلافات روسيا وإسرائيل على استمرار ضربات الأخيرة في قلب سوريا، مع العلم أن بين تل أبيب وموسكو توافقاً ضمنياً على استبعاد طهران من دمشق، لأنها تزاحم الروس بزيادة نفوذها هناك.

وقد شهدت الأيام الأخيرة طرح جملة من التساؤلات الإسرائيلية عن طبيعة التغيرات التي قد تنجم عن هذا التوتر مع الروس على الواقع في سوريا، ومنها: هل يمكن للطائرات الإسرائيلية أن تقصف أهدافاً في قلب سوريا دون تنسيق مع الروس؟ وهل هؤلاء سيوافقون على ذلك، وهم يعتبرون أنفسهم الحكام الفعليين لسوريا؟ وهل يتراجع الضوء الروسي الأصفر الممنوح للطيران الإسرائيلي ليصبح أحمر مما قد يعني مستقبَلاً اعتبارها طائرات معادية تستوجب الإسقاط، إن لم يكن بمضادات روسية مباشرة فبأيدٍ سورية؟

مع العلم أن توتراً سابقاً نشب بين موسكو وتل أبيب حين سلمت الأولى دمشق مضادات جوية لاستهداف الطائرات الإسرائيلية في أجوائها، لكنها لم تنجح في كبح جماحها، ربما لأن الروس لم يكونوا جادّين في منع الضربات الإسرائيلية، لكن اليوم يتحسب الإسرائيليون لإمكانية أن يعيد الروس حساباتهم، ويجعلوا مهمة الطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية ليست سهلة إلى هذا الحد، رغم أن ذلك من شأنه أن يوسع الجبهات التي تقاتل روسيا عليها، وهي في غنى عن ذلك.

يبدو جديراً بالإشارة أن إسرائيل تلقّت خبر نقل بعض القطع العسكرية والمقاتلين الروس من سوريا إلى أوكرانيا للانضمام إلى القتال هناك، بكثير من القلق، خشية أن تبادر إيران لملء هذا الفراغ، مما دفعها إلى تكثيف استهدافاتها للقوات الإيرانية في سوريا، بل وأسقطت قتلى من ضباطها وجنودها هناك، دون رد حقيقي من طهران، ولا إعلان موقف رافض من موسكو، وربما تأتي زيارة الرئيس السوري لطهران مؤخراً في هذا السياق، في سياق ملء الفراغ الذي تَشكَّل عن انسحاب بعض القوات الروسية.

ليس من السهل إعطاء جواب فاصل في مستقبل الضربات الإسرائيلية ضد سوريا المسماة "المعركة بين الحروب"، أخذاً بعين الاعتبار التوتر القائم مع روسيا، فمثل هذه القرارات لا تُتخذ بصورة نزقة، أو من باب "فشة الخُلق"، بل هي خاضعة لحسابات ذاتية إسرائيلية، وثنائية مع روسيا، وربما ثلاثية مع الولايات المتحدة، وفي هذه الحالة قد يتم تحييد الملفّ السوري عن خلافات هذه الأطراف على اعتبار أن لديهم مجتمعين مصلحة في تقليص الوجود الإيراني في سوريا، ووقف شحنات الأسلحة إلى حزب الله. هذا ما تقوله السياسة، لكن من قال إنها تُدار دائما بقوة المنطق، لا منطق القوة؟

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي