تابعنا
لعل أكثر ما لفت نظر العالم خلال الشهر الأول من عمليات هذه المعركة كان الحجم غير المسبوق من القصف الذي أنزلته آلة الدمار الإسرائيلية بمنازل المدنيين في مختلف مناطق قطاع غزة، وهذه المشاهد المفجعة التي ما زالت تملأ شاشات التلفزة العالمية.

منذ اللحظة الأولى التي ظهرت فيها صور عملية طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كان من الواضح أنّ هذه المعركة ستكون طويلةً ولن تنتهي بسرعة.

نوعية الاختراق الذي نفذته المقاومة الفلسطينية خلف السياج الأمني، والذي يُعتبر الأول من نوعه طوال تاريخ الصراع منذ الاحتلال البريطاني عام 1917، كان يتطلب نوعيةً خاصةً من التعامل معه، سواء على مستوى الفصائل الفلسطينية التي نفذت هذه العملية، أو على مستوى الاحتلال الإسرائيلي.

ولذلك، فقد كان من الواضح أنّ الحرب ستطول، وهو ما اتفق عليه ساسة الاحتلال ومن يدعمونهم في الإدارة الأمريكية عند بدء الرد والحشد للعمليات البرية التي انطلقت قبل أقل من أسبوعين.

فاتورة الدماء

لكن لعل أكثر ما لفت نظر العالم خلال الشهر الأول من عمليات هذه المعركة كان الحجم غير المسبوق من القصف الذي أنزلته آلة الدمار الإسرائيلية بمنازل المدنيين في مختلف مناطق قطاع غزة، وهذه المشاهد المفجعة التي ما زالت تملأ شاشات التلفزة العالمية، تُعتبر أحد أهم عناوين الشهر الأول من يوميات الحرب، وجعلت الجانب الإنساني أكثر ما يشغل الرأي العام العالمي حالياً.

إلا أنّ وصول أعداد الضحايا المدنيين الفلسطينيين إلى أكثر من 10 آلاف، منهم أكثر من 4 آلاف طفل، إضافةً إلى أكثر من 26 ألف جريح، فرض على إسرائيل فاتورة دمٍ كبيرة لم تكن تتوقع أن تؤدي إلى نتائج عكسية.

وبلغ الدعم العالمي الرسمي والشعبي لإسرائيل أوجه في أعقاب عملية طوفان الأقصى، وحاولت إسرائيل استغلال هذا التعاطف الجارف يومها بشن حملةٍ في غاية العنف، يمكن أن تؤدي إلى ما تحلم به إسرائيل في النهاية، وهي "إنهاء وجود حركة حماس والفصائل الفلسطينية المقاومة، وتهجير سكان قطاع غزة بالقوة إلى سيناء كما كان مطروحاً في خطة "صفقة القرن" التي طرحها الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترمب.

لكن ارتفاع فاتورة الدماء والصور الإنسانية البشعة في غزة، كان لها أثر عكسي، فقد انتشرت في كل مكان رغم المحاولات الحثيثة لإسرائيل لمحوها من ذاكرة العالم، وغطت بذلك على الروايات الإسرائيلية الخيالية حول قطع رؤوس الرُّضع وعمليات الحرق والاغتصاب التي لم يجد العالم لها دليلاً واحداً، فالحقيقة لا يمكن إخفاؤها في عالم ثورة المعلومات اليوم، وهو ما لم تدركه إسرائيل كما يبدو.

من الطريف أنّ الكنيست الإسرائيلي أقر قبل يومين قانوناً يعاقب من يشاهد المواد التي تصدرها حركة حماس على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة بالسجن سنة واحدة.

ويعدّ هذا القانون في الحقيقة محاولة بائسةً يائسة لمنع انتشار الرواية الفلسطينية المدعومة بالصورة والفيديو، وأحسب أنّ من أقرّوا هذا القانون ما زالوا يعيشون عقلية ثمانينيات القرن العشرين، ولا يفهمون أنّه لا يمكن بحالٍ منع أحدٍ من مشاهدة أي مواد إعلامية ثم حذفها بالكامل من دون أي أثر بطرق بسيطة يعرفها اليوم طلبة المدارس.

ورطة الحرب البرية

ورغم دخول الجيش الإسرائيلي بالفعل في الحرب البرية التي كان كثير من المراقبين الأمريكيين العقلاء يحذرون من مغبتها، إلا أنّ الميدان يبيّن أن انتصار إسرائيل في هذه الحرب البرية بعيد جداً عن التحقيق، وذلك لأنّ الفرقة الوحيدة في الجيش الإسرائيلي التي كان يفترض أنّها تعلم كل صغيرة وكبيرة عن غزة، أي ما تسمى (فرقة غزة)، قد أُبيدت وانتهت في الساعات الأولى من معركة طوفان الأقصى.

إنّ الجيش الإسرائيلي يسير اليوم في شوارع وحارات غزة على غير معرفةٍ حقيقية بطبيعة الأرض والمناطق، وهو ما جعل من السهل اصطياد آلياته العسكرية وتصوير ذلك من زوايا عديدة مختلفة وبثها في رسائل المقاومة الفلسطينية عبر الإعلام العالمي.

وهذا الأمر من شأنه أن يضعف الروح المعنوية الإسرائيلية بشكل لافت، بعكس الروح المعنوية لدى الفلسطيني ومناصريه على حدّ سواء.

ورغم فداحة الخسارة البشرية والإنسانية والعمرانية التي تكبّدها الفلسطينيون في قطاع غزة، فإنّه من الواضح أنّ طبيعة الهجوم الإسرائيلي، وتحديداً قطع الاتصالات والكهرباء عن مختلف مناطق غزة، ساهمت في انقطاع أخبار الغزيين عن بعضهم بعضاً في مختلف مناطق القطاع وبالتالي ساهم ذلك في تخفيف أثر الصدمات التي تريد إسرائيل إيقاعها بالفلسطينيين مع كل مجزرة ترتكبها في مربع سكني ما في غزة، لأنّ الغزيين ببساطة لا يعلمون بما جرى.

ولعلها المرة الأولى التي يشعر فيها المراقبون من خارج الأراضي الفلسطينية بفداحة الهجوم الإسرائيلي أكثر من سكان القطاع أنفسهم، وهو من التقادير العجيبة التي ساهمت في ضبط ردود الفعل لدى الغزيين وتخفيف الصدمات عليهم.

معركة طويلة خاسرة

أحد أهم ما يتفق عليه المراقبون للميدان اليوم أنّ هذه الحرب هي الأولى ذات المسارات المفتوحة على الاحتمالات كافة في تاريخ الصراع في فلسطين، وهو ما يجعل هذه المعركة في غاية الأهمية من المقاييس كافة.

إلا أنّ المرجح في هذا الأمر، أنّ الحرب مرشحة للاستمرار في غزة، سواء بالقصف الجوي ضدّ الأهداف المدنية، أو بالتوغلات البرية المحدودة، لفترة لا تقل عن عدة أسابيع أخرى.

والثابت هنا أنّ فاتورة الدم كلما ارتفعت في المدنيين، صار الضغط الشعبي العالمي على الحكومات المتواطئة مع إسرائيل أقوى وأشدّ، بما يضطر هذه الحكومات في النهاية إلى تخفيف اندفاعاتها تجاه دعم الحكومة الإسرائيلية.

وهذا ما نراه حالياً لدى حكومات عدّة مثل إسبانيا والنرويج، وحتى لدى بعض أركان الإدارة الأمريكية التي يزداد الضغط الداخلي عليها مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي الذي يخشاه الديمقراطيون حالياً.

وقد يساهم ذلك لاحقاً في زيادة عزلة إسرائيل عالمياً، وسيعني اضطرارها إلى وقف القتال في الوقت الذي لا تريده، ومن دون تحقيق الشروط التي يتشدق بها نتنياهو، وهذا إنْ عنى شيئاً فإنّما يعني أنّ إسرائيل ستخسر هذه المعركة قريباً، إنْ لم تكن قد خسرتها الآن بالفعل.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي