تابعنا
هذه الاستحقاقات التي تنتظر إسرائيل لا تبدو حاضرة بجدية في الذهن الإسرائيلي المنهمك بالحرب، والمشغول بما ستكون عليه غزة بُعيد الحرب، فيما يغفل عمّا ستكون عليه إسرائيل من صدام اجتماعي وسياسي غير مسبوق، وتحديات أمنية في الشمال والجنوب.

تجاوزت المفاجأة التي حققتها حماس بالهجوم المباغت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 البعد العسكري والاستراتيجي في الوعي الإسرائيلي، لتغدو متغيراً يضيف مزيداً من التعقيد إلى المشهد السياسي والاجتماعي في إسرائيل.

وفي غمرة الشعور بالصدمة إزاء الفشل العسكري والأمني، تصاعد شعور إسرائيلي بالتفاؤل بأن الحرب ستخلق إطاراً وحدوياً للإسرائيليين على قاعدة الشعور الجمعي بالتهديد، وقد تعزز التفاؤل بتشكيل "مجلس الحرب" عبر انضمام كل من غانتس وآيزنكوت -ألدّ خصوم نتنياهو- إلى الحكومة.

لكن تواتر الخلافات السياسية في الظهور جعل الإسرائيليين يدركون أن الفجوة بين فرقاء السياسة أعمق من أن تجسرها الحرب، وأن المعركة مع حماس التي رأى فيها الإسرائيليون بديلاً أقل سوءاً من الحرب بينهم ستضيف إليهم مزيداً من التعقيد، خصوصاً في ما يتعلق بمخرجات الحرب وتحديد مسؤولياتها.

وإزاء هذا المشهد يمكن أن نلمّح إلى ستة استحقاقات تنتظر إسرائيل في اليوم التالي للحرب.

بات من شبه المؤكد أنه بمجرد إعلان وقف إطلاق النار فسوف ينسحب كل من بيني غانتس وآيزنكوت من الحكومة، فيما تعود الأخيرة إلى صيغتها السابقة باعتبارها حكومة يمينة صرفة

الاستحقاق الأول: الأزمة السياسية الداخلية ومصير الائتلاف الحكومي

قُبيل الحرب احتدمت الأزمة الداخلية بنسق تصاعديّ سريع، وبينما انساقت إسرائيل إلى القتال كانت المحكمة العليا تعقد جلساتها للبَتّ في قانون إلغاء ذريعة "عدم المعقولية"، وهو القانون الذي سنّه الائتلاف بهدف تقليص دور المحكمة العليا في الحكم على صحة قرارات الحكومة.

توعَّد زعماء اليمين بعدم الانصياع لقرار المحكمة في حال إلغاء القانون، وفي المقابل تعهّد قادة المعارضة بنقض الامتثال للحكومة إذا رفضت قرار المحكمة، ورغم الحرب فإن المحكمة أصدرت قرارها مطلع عام 2024 بإلغاء القانون.

لم يُصدِر قادة الائتلاف ردة فعل حادة، لكنهم لم يخفوا نياتهم إزاء المحكمة بعد الحرب، وقال عضو الكنيست اليميني سمحا روثمان إن "المحكمة العليا قد اختارت حربها، وبعد الحرب سيجري التعامل مع التغيرات في النظام القضائي".

وتشير هذه المواقف إلى المشهد بعد الحرب، إذ توجد شرعيتان متصارعتان، وهما شرعية المحكمة وشرعية الكنيست، وبينما تفتقد إسرائيل دستوراً أو قانوناً ناظماً لهذا النوع من الخلاف، فإن الأفق يتسع لتأويلات كل طرف وفق مزاجه ومصلحته السياسية. وتكمن خطورة هذه التأويلات في أنها تمس بشكل جوهري شرعية النظام السياسي، بما ينذر بشكل جدي بأزمة دستورية تبدأ فور انتهاء الحرب.

وباستثناء سيناريو الحرب فقد كان من المزمع أن تجتمع المحكمة العليا في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لمناقشة التماسات قُدّمت ضد وزير العدل بسبب مماطلته في عقد لجنة تعيين القضاة، وهي المسألة الأكثر حساسية وخطورة في الخلاف القضائي، ورغم أن السجال بشأن هذه المسألة توقف بسبب الحرب، فإنها ستكون أحد أكثر الملفات سخونة في الصراع الداخلي بعد الحرب.

في سياق هذه التوترات يبقى مصير الائتلاف معلقاً، إذ بات من شبه المؤكد أنه بمجرد إعلان وقف إطلاق النار فسوف ينسحب كل من بيني غانتس وآيزنكوت من الحكومة، فيما تعود الأخيرة إلى صيغتها السابقة باعتبارها حكومة يمينة صرفة.

وقد شهدت الحكومة خلافات داخلية قُبيل الحرب وفي أثنائها، بدءاً من إقالة نتنياهو لوزير الدفاع يوآف غالانت، ثم إعادته إلى منصبه مرة أخرى على خلفية موقفه من مشروع التغييرات القضائية، مروراً بما جرى من خلافات حول إدارة الحرب، التي كان من أبرز مظاهرها عقد كل من نتنياهو وغالانت مؤتمرات صحفية منفصلة، وانسحاب الأخير من إحدى جلسات الحكومة بسبب إشكال مع نتنياهو.

مسألة أخرى تشكل تهديداً جدياً لاستمرار الائتلاف وهي مسألة قانون التجنيد، إذ تُصِرّ الأحزاب الحريدية على تمرير قانون يُعفي طلاب المعاهد الدينية من التجنيد، على أن يجري تمرير القانون خلال عام 2024 بحدّ زمني أقصى.

تشارك المكونات العلمانية داخل الائتلاف أحزاب اليسار معارضتها لهذا القانون، وترى فيه تهديداً خطيراً على نموذج "جيش الشعب"، ورغم محاولات التوصل إلى تسوية بشأن القانون فإن الخلاف بشأن تمرير القانون وصل إلى نقطة صفرية، وهو ما يجسده تصريح وزير البناء الحريدي يتسحاق غولدكنوبف بالقول إن "وجود الحكومة مرتبط بقانون التجنيد".

الاستحقاق الثاني: مستقبل نتنياهو السياسي

تكمن أهمية نتنياهو في كونه الشخصية الوحيدة التي يُجمِع عليها اليمين زعيماً له، وفي حال أُقصي نتنياهو من المشهد السياسي فمن المتوقع أن يشهد حزب الليكود انشقاقات كبيرة ويدخل في طور ضعف سياسي، وهو ما سيؤثر في بنية معسكر اليمين قاطبة، وفي المقابل فإنّ اليسار يفتقد شخصية قيادية جامعة، وهو ما يعني أن إسرائيل على شفا أزمة قيادة.

تتربص بمستقبل نتنياهو تهديدات عدّة، أبرزها قضايا الفساد، وكذلك قرار المحكمة بإرجاء تطبيق قانون يمنع عزل رئيس الوزراء، وهذا القانون سنّه الكنيست لمنع الإطاحة بنتنياهو، لكن التهديد الأبرز يتمثل في المسؤولية الأخلاقية و"القومية" إزاء الحرب.

يحاول نتنياهو الاستفادة من توجُّه الجيش بإطالة أمد الحرب وتعميقها لتحقيق أمرين، الأول يتمثل في محاولة تحقيق نصر عسكري أو على الأقل صورة إنجاز من شأنها أن توازي صورة الإخفاق والهزيمة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، والثاني استثمار الإزاحة الزمنية بين الصورة في 7 أكتوبر/تشرين الأول ولحظة نهاية الحرب، على اعتبار أن التباعد الزماني يكفل لنتنياهو تهدئة الشعور بالغضب والسخط الذي امتلأ بهما الوجدان الإسرائيلي.

من المستبعد أن يستسلم نتنياهو للضغوط ويعلن بشكل صريح مسؤوليته عما جرى في 7 أكتوبر/تشرين الأول، بل سيحاول من خلال نفوذه الإعلامي أن يصدر سبباً واحد للهزيمة، وهو قيادة الجيش، كذلك من المستبعد أكثر أن يتقبل مطالبات الاستقالة وتفكيك الحكومة، لكن مخرجات الحرب ومدى قدرة إسرائيل على تحقيق إنجاز هي التي ستفصل في مدى قدرة نتنياهو على الصمود في مواجهة الضغوط.

الاستحقاق الثالث: العلاقة بين المستوى السياسي والعسكري

على مدار عقود، انتظمت العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري في سياق مقبول، ويخضع المستوى العسكري للسياسي، ولا يتدخل في العملية السياسية أو يؤثر فيها، لكن عمق الأزمة السياسية كان أعقد من أن يبعد الجيش عن تأثيراتها.

وقد أبدى نتنياهو انزعاجه من تصدير الجيش لرواية تفيد بأن جاهزيته تأثرت سلباً بسبب الأزمة، مما دفع نتنياهو إلى توبيخ رئيس أركان الجيش هرتسي هليفي، وتبادل كلاهما الاتهامات بشأن تأثير التغييرات القضائية في كفاءة الجيش، تلا ذلك هجوم كوادر عدة بالليكود ضد قائد الأركان، وقد علقت صحيفة يديعوت أحرونوت آنذاك أن كلاً من نتنياهو ورئيس الأركان في مسار تصادم.

التصادم عطفته الحرب إلى مسار آخر لا تبدو له نهاية أخرى سوى الصدام، الذي بدأت أُولى محطاته مع دأب نتنياهو على التنصل من مسؤولية الفشل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، تلا ذلك مهاجمة وزراء اليمين لهليفي بسبب تشكيله لجنة تحقيق تشمل جنرالات سابقين مقربين من معسكر اليسار.

هذا السجال الذي بدأ بسبب السياسة واستمر بفعل الحرب يلمّح إلى علاقة أكثر توتراً بعد انتهائها، حينما يبدأ النقاش حول مسؤولية الحرب، وفي وضع كهذا يبدو أن القواعد الناظمة للعلاقة بينهما قد تضررت بشكل ملموس.

هذا الأمر سيمثل اختباراً لكل من الجيش ووزير الدفاع، وعطفاً على السوابق اصطف وزير الدفاع غالانت إلى جانب الجيش في وجه شعبوية اليمين، وإزاء هذا الاختبار سيكون على غالانت الاختيار بين كونه وزيراً يمينياً أو جنرالاً سابقاً لديه ارتباط عاطفي ومهني بالجيش.

أما رئيس الأركان فسيجد نفسه مضطراً إلى الدفاع عن نفسه عبر تجنيد الجنرالات المتقاعدين لضم نتنياهو والمستوى السياسي إلى دائرة المسؤولية، فيما تدفعه تأثيرات الأزمة السياسية إلى مزيدٍ من التدخل في المشهد السياسي.

الاستحقاق الرابع: التحديات الأمنية والعسكرية

إحدى نتائج الحرب المرجحة أن طبيعة التحديات الأمنية والعسكرية وقواعد الاشتباك ومعادلات الردع ستتغير، وبديهي أن تحدد نتائج الحرب إذا ما أصبحت لصالح إسرائيل أو العكس.

في قطاع غزة سيواجه الجيش وضعاً مختلفاً، ولأن خياراته إزاء الحرب تراوح بين النصر والهزيمة، فإن نافذة الفرص إزاء سيناريو النصر تقتصر على تفكيك البنية العسكرية لحماس في قطاع غزة وإنهاء حكمها، ولا يتجاوزه في أحسن الأحوال إلى القضاء عليها، ليس فكرة فحسب، بل فاعلية ونشاط.

في حالة كهذه يمكن لحماس أن تشكل نمط التهديد من خلال عمليات لا مركزية، وكونها غير حاكمة فيمكنها التصرف بحرّية أكبر، وسيتعيّن على الجيش الإسرائيلي مواجهة عمليات استنزاف طويلة، ويضطر إلى نشر قوات كبيرة على حدود القطاع وبذل جهد أمني مضاعف.

أما سيناريو الهزيمة فإنه يحمل تحديات أكثر خطورة، إذ تحتفظ حماس ببنيتها العسكرية وتستطيع بناء قدراتها وتزداد ثقتها بنفسها وبقدرتها على تهديد إسرائيل والقيام بعمليات عسكرية كبرى ناجحة مع تزايد قناعة ذاتية لديها بفشل فكرة زوالها أو تفكيك قدراتها العسكرية.

وفي مشهد مثل هذا فإن معادلة الردع التي تُعَدّ ركيزة وجودية للجيش وإسرائيل ستنهار على نحو يصعب إصلاحه، ليس فقط في وعي حماس، بل في وعي الإسرائيليين أنفسهم، إذ تنخفض ثقة المجتمع بالجيش إلى أدنى المستويات، ويدرك الجيش أنه غير قادر على تحقيق النصر ضد من يصنفه بـ"أضعف أعدائه".

أما في ما يتعلق بإيران وحزب الله فإن انتصار إسرائيل سيرسل إليهما رسالة ردع حازمة، ومع ذلك فإنهما يستفيدان من كلتا الحالتين، فإذا ما نجح الجيش في غزة فإنه سيستغرق في استنزاف يفرض عليه الانشغال عنهم، أما في حال الفشل فستكون إسرائيل في أسوأ أحوالها في ميزان الردع الإقليمي، وسيفتح ذلك شهية الحزب وإيران للمضيّ قُدماً في مشاريعهما وسيصبحان أكثر جرأة في التعامل مع إسرائيل.

الاستحقاق الخامس: الأزمة الاقتصادية

تعاقبت المؤشرات السلبية للاقتصاد الإسرائيلي توازياً مع الأزمة السياسية ثم الحرب، مثل انخفاض معدل النمو المتوقع من 4% إلى 2%، وتراجع قيمة الشيكل أمام الدولار، وتدني بورصة تل أبيب إلى مستويات غير مسبوقة منذ الأزمة العالمية عام 2008.

وتشير التقديرات إلى أن تكلفة الحرب ستبلغ 51 مليار دولار، ومع أن إسرائيل تمتلك المقومات للتعافي اقتصادياً، فإن هذا يتطلب استقراراً سياسياً وأمنياً لا يبدو أنه يتوفر بعد الحرب، ولذا فإن فرص تفاقم الأزمة أكبر من فرص التعافي.

الاستحقاق السادس: الشرعية الدولية لإسرائيل

في بداية الحرب شحذت الدعاية الإسرائيلية كل خطاب أو صورة للمظلومية لحصد أكبر تأييد، لكن توارد صور القتل والدمار بحق المدنيين والأطفال أمال الكفة ضد الرواية الإسرائيلية.

تدرك إسرائيل أنها بحاجة إلى الوقت لتتمكن من صيانة صورتها لدى الرأي العام الدولي، خصوصاً الغربي منه، كي تواصل حصد الدعم الحيوي اللازم لحل مشكلاتها الاقتصادية والسياسية، ومع ذلك فإنه مع جهد دبلوماسي وبعض الوقت يمكن أن تعود العلاقات الغربية-الإسرائيلية إلى صفوها قبل الحرب.

إقليمياً، يتعلق التحدي الأصعب لإسرائيل بمسار التطبيع مع السعودية، وبسبب الحرب فقد أضحت إسرائيل في موقف تفاوضي أسوأ، وفي أحسن الأحوال فإن هذا المسار سوف يأخذ وقتاً أطول مما كان يحتاج إليه لولا الحرب.

ويبقى المحك الأكثر جسامة هو ما يمكن أن يجتره قرار المحكمة الدولية من تداعيات إذا ما أُدينت إسرائيل، وقد تتجاوز تلك الانعكاسات إلى الحيز العملي على مستويات عدة، أبرزها تعزيز فكرة المقاطعة الدولية لها، وتجميد أو قطع بعض الدول العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، مع فرصة ضئيلة لفرض عقوبات عسكرية واقتصادية عليها.

هذه الاستحقاقات التي تنتظر إسرائيل لا تبدو حاضرة بجدية في الذهن الإسرائيلي المنهمك بالحرب، والمشغول بما ستكون عليه غزة بُعيد الحرب، فيما يغفل عمّا ستكون عليه إسرائيل من صدام اجتماعي وسياسي غير مسبوق، وتحديات أمنية في الشمال والجنوب، واقتصاد يختنق، وشرعية ومكانة دولية تتآكلان.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي