تابعنا
تنتظر بحيرة المتوسط مزيدا من الأجساد البشرية النافقة على شواطئها، مع تملّص ديمقراطيات العالم من التزاماتها المبدئية والأخلاقية، وتجاهلها الشعارات المجيدة عن كرامة البشر وحقوق الإنسان ووعود العولمة.

يبقى مشهد الأسماك النافقة مألوفاً على الشواطئ الملوّثة، لكنّ بعض سواحل المتوسط تستيقظ على أجساد بشرية لفظها الموج قبل بلوغها الفردوس الأرضي. يطفو شبّان وكهول وأمّهات وأطفال من العرب والأفارقة على ضفّتيْ المتوسط الجنوبية والشمالية كل صباح دون أن تُعرَف أسماؤهم وهويّاتهم، في مشاهد صادمة تضمحلّ فيها كرامة الإنسان إلى الحضيض، وما كان للمشهد أن يتفاقم لولا "تلوّث" مداولات السياسة في أوروبا بشأن مسارات الهجرة واللجوء، واحتدام خلافات الأسرة الأوروبية حولها.

لم تفلح طوال السنوات الماضية مساعي "التوزيع العادل" للاجئين بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، كما أخفقت محاولات المقايضة التي اقترحت أن تبادر الدولة التي ترفض استقبال اللاجئين بأن تدفع أموالاً للدولة التي تفتح لهم شقوقاً في جدارها.

حسام شاكر

ينبغي الاستعداد لارتفاع منسوب الغرق على شواطئ المتوسط في السنوات المقبلة، خاصة بعد اجتماع قادة أوروبا يومي 19 و20 سبتمبر/ أيلول الذين التقطوا صورهم العائلية في حدائق سالزبورغ الرائعة. لم تفلح طوال السنوات الماضية مساعي "التوزيع العادل" للاجئين بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، كما أخفقت محاولات المقايضة التي اقترحت أن تبادر الدولة التي ترفض استقبال اللاجئين بأن تدفع أموالاً للدولة التي تفتح لهم شقوقاً في جدارها. إنها الوصفة التي استنكرها رئيس وزراء لوكسمبورغ مذكِّراً أقرانه في القمّة بأنهم يتحدثون عن بشر ولا يبيعون السجّاد.

لم تتفق أوروبا في الداخل بما يدفعها إلى تصدير أزمتها. إنها الآن أكثر تصميماً على تحصين قلعتها لمنع وصول بؤساء الأرض إليها، فقررت تشديد التدابير الصارمة لإحكام سدّ مسارات التسلّل إلى أعماقها عبر المتوسط والبلقان وشرق أوروبا، بما في ذلك تعزيز قوات خفر السواحل المشتركة ضمن منظومة "فرونتكس"، وهو ما يعود بالمخاطر على المتسللين. لا يكتفي القادة الأوروبيون بتشديد الرقابة على ما يسمّونها "الحدود الخارجية" للاتحاد، فهم يراهنون أيضاً على إبرام ترتيبات مع دول المرور العربية في شمال أفريقيا.

ترى أنغيلا ميركل أنّ الاتفاق الأوروبي الذي أبرمته مع أنقرة والذي حدّ من تدفق اللاجئين، هو مثال لترتيبات قادمة مع دول عربية أخرى

حسام شاكر

ترى أنغيلا ميركل أنّ الاتفاق الأوروبي الذي أبرمته مع أنقرة والذي حدّ من تدفق اللاجئين، هو مثال لترتيبات قادمة مع دول عربية أخرى. لكنّ المستشارة الألمانية لا تلفت الأنظار إلى فوارق جوهرية، فتركيا هي وجهة للمهاجرين واللاجئين أيضاً وتحتضن الملايين منهم وتنطوي على أطر قانونية وإجرائية مقبولة دولياً في هذا الشأن، وهو ما لا يتوفر للدول العربية والأفريقية المعنية، علاوة على أنّ ليبيا التي تتصدّر بلدان المرور المتوسطية تفتقد حكومة مركزية ذات سلطة ناجزة أساساً.

لم تُفلِح حتى الآن الاتصالات الأوروبية الرامية لفتح ما يشبه معسكرات تجميع للعابرين الأفارقة إلى أوروبا بتعبيرات تجميلية هي "المنصّات" أو "مراكز النزول"، التي وصفها مفوض الهجرة الأوروبي ديمتريس أفراموبولوس بأنها "غير إنسانية". فالبلدان العربية المعنية لم تتجاوب حتى الآن مع هذه الفكرة الفجّة التي خلصت إليها القمة الأوروبية في بروكسيل في يونيو/ حزيران الماضي والتي يتحمّس لها أقصى اليمين السياسي في أوروبا، حتى أنّ حكومة اليمين الشعبوي في إيطاليا حاولت اقتراح ما يشببها على السلطات الليبية. أما البديل المطروح الآن فهو منح أعطيات مالية سخية لحكومات جنوب المتوسط لتقوم بدور حارس الملهى الليلي الغليظ. المطلوب من القادة العرب، ببساطة، التجنّد لإبعاد المبحرين البؤساء عن أوروبا وإعادة قواربهم إلى سواحل المتوسط العربية مع تعقّب عصابات التهريب.

ما يريده مسؤولو أوروبا باختصار هو ترحيل أزمتهم إلى دول عربية وأفريقية كي تضطلع بأدوار كريهة لا يرغبون برؤيتها على أراضيهم؛ مثل إعادة زوارق اللاجئين قسراً، وتجميعهم في أماكن خاصة أو معسكرات اعتقال

حسام شاكر

لم يجرؤ المسؤولون الأوروبيون في تصريحاتهم في سالزبورغ على التلفّظ بمصطلحات حقوق الإنسان أو الديمقراطية أو كرامة البشر، أما مضيفهم سباستيان كورتس، المستشار الشاب الذي يقود ائتلافه الحكومي النمساوي مع اليمين المتطرف، فكال المديح لتجربة الاستبداد العسكري في مصر التي رأى فيها شريكاً مهماً لأوروبا الديمقراطية لإنجاز المهمة.

ما يريده مسؤولو أوروبا باختصار هو ترحيل أزمتهم إلى دول عربية وأفريقية كي تضطلع بأدوار كريهة لا يرغبون برؤيتها على أراضيهم؛ مثل إعادة زوارق اللاجئين قسراً، وتجميعهم في أماكن خاصة أو معسكرات اعتقال مُحاطة بحراسة مشددة تمهيدا لتيئيسهم من الهجرة ومن ثمّ تصريفهم بأي ثمن.

لا يتطرّق المتحدثون الأوروبيون إلى التداعيات المترتبة على تكديس البؤساء في عنق الزجاجة، مثل إذكاء الاتجار بالبشر والجريمة المنظمة وأعمال الإرهاب، علاوة على إنعاش ممارسات الإذلال والعبودية والاستغلال الجنسي؛ كالتي زعمت تقارير مستقلّة وقوعها في ليبيا مثلاً. ويتجاهل المسؤولون الأوروبيون أنّ دول العبور ذاتها هي بيئات منبع أيضاً بصفتها طاردة لشبابها العاطل عن العمل إلى أوروبا.

جانب آخر من الكلفة الباهظة تكشفه خبرات السنوات الماضية، من أنّ تشديد القيود على الوصول إلى أوروبا يرفع من ثمن رحلة العبور البحرية والبرية إليها ويزيد من مخاطرها على بؤساء الأرض؛ الذين سيدفعون مزيداً من الأتعاب الباهظة لسماسرة الأرواح بحثاً عن مأوى موعو وفرصة حياة في فردوسهم الأرضي الموهوم؛ الذي قد يغرقون في البحر أو يختنقون في الشاحنات قبل بلوغه.

لا يصارح القادة الأوروبيون شعوبهم باستحالة عزل قارّتهم عن العالم، وأنّ ظروفاً واقعية لا يمكن إنكارها تبعث بأفواج البشر هؤلاء، الذين يُسْدون لأوروبا خدمات ديموغرافية وتشغيلية واقتصادية لا تحظى بالتقدير. ولا تبدو أوساط عريضة من الشعوب الأوروبية مستعدة للإقرار بالواقع، فتعلو أوهام عودتها إلى القرن العشرين خشية عبورها إلى مستقبل محفوف بالتحوّلات. وتفرض الشعبوية الساذجة سطوتها على عموم الساحة السياسية في بلدان أوروبا، فتتملّقها الأحزاب المعتدلة أو تهادنها خشية انهيار حظوظها الانتخابية، وهكذا تطفح مواسم الاقتراع بالهواجس والحمى العنصرية والتحامُل على القادمين من وراء البحر.

إنّ اندفاع البشر إلى أوروبا من بيئات معيّنة مأزومة ومضطربة هو تطوّر منطقي، لم يكن مفاجئاً لمن اشتمّ دخان الحرائق في الجوار العربي أو أدرك عجز العالم عن الوفاء بوعوده الكبرى

حسام شاكر

لا ترغب أوروبا بالاعتراف بأنّ موجة الهجرة واللجوء ليست عابرة، فهي حالة مزمنة يُضطر بموجبها مزيد من البشر إلى الاندفاع صوب الشمال تحت وطأة تطوّرات قاهرة وظروف طاردة في عالم يتقارب، والمفارقة هي أنّ أوروبا ذاتها ساهمت في إنتاج هذه البواعث. وبصرف النظر عن أدوار أوروبية مباشرة أو غير مباشرة في تدهور الأوضاع في بلدان المنبع؛ فإنّ مفعول بعض السياسات والممارسات الاقتصادية والتجارية على إنعاش حركة الهجرة واللجوء تبدو واضحة للعيان. تمنح سياسات الدعم الأوروبية، مثلاً، امتيازات لمزارعيها بتغطية نحو ثلث التكلفة الإنتاجية من أموال الدعم، بما يُضعِف فرص فلاحي أفريقيا العربية والسمراء على المنافسة ويضغط على قدراتهم التسويقية، وهو ما يعزِّز هجران الأرض بحثاً عن فرصة عيْش مُجدية.

إنّ اندفاع البشر إلى أوروبا من بيئات معيّنة مأزومة ومضطربة هو تطوّر منطقي، لم يكن مفاجئاً لمن اشتمّ دخان الحرائق في الجوار العربي أو أدرك عجز العالم عن الوفاء بوعوده الكبرى. وفي مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات، مثلا، أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة بانهيار "الأهداف الإنمائية للألفية"، التي توافق عليها قادة العالم في سنة 2000 وأعلنوا عزمهم على بلوغها بحلول سبتمبر/ أيلول 2015 لكبح الفقر والجهل والمرض وسوء التغذية وتحسين مواصفات العيش وتقليص الفجوات السحيقة بين الأمم. لهذا الإخفاق الجسيم كلفته الباهظة، التي تشمل ضمناً اندلاع توتّرات وتأجيج صراعات وبحث أفواج من البشر عن فرصهم في أماكن أخرى في ظلّ العولمة التي نثرت وعود الانفتاح. أمّا موسم الحرية والديمقراطية العربي القصير فقد منحته أوروبا الجوائز وجولات التصفيق؛ ثم خذلته في ساعة الحقيقة واختارت الشراكة مع مناهضي الديمقراطية بما يعيد إنتاج دواعي الإخفاق والقنوط والهجرة.

تنتظر بحيرة المتوسط مزيداً من الأجساد البشرية النافقة على شواطئها، مع تملّص ديمقراطيات العالم من التزاماتها المبدئية والأخلاقية، وتجاهلها الشعارات المجيدة عن كرامة البشر وحقوق الإنسان ووعود العولمة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي
TRT عربي