تابعنا
الجدل الكبير حول ارتداء الحجاب ليس جديداً، إذ تعود جذوره إلى عام 2004، ورغم أنّ فرنسا لم تكن الدولة الأوروبية الوحيدة التي تحكمها علاقة متشدّدة مع الحجاب، فإنّها الدولة الأكثر صرامة مقارنة ببقية الدول الأوروبية في تطبيق القوانين العنصرية.

بين علمانية فرنسا وعنصريّتها تجد النساء المسلمات أنفسهن عالقات بين فكَّي كماشة، في وقت بدأ فيه الحديث عن قانون "مبادئ تعزيز احترام القيم الجمهورية" يأخذ مجرى مختلفاً عن جوهره المفترض.

فمن ناحيةٍ نظريّة تدور الفكرة الأساسية للقانون حول إدماج المجتمع الفرنسي بمختلف فئاته تحت مظلة الجمهورية الفرنسية لمناهضة النزعات الانفصالية، غير أنّ الحديث بدأ يتمحور حول عدم إمكانية تقبّل المجتمع الفرنسي للحجاب، واتهام المسلمين بعدم قابليّتهم للاندماج، بمبرّر أنّ الحجاب يتعارض مع قيم فرنسا العلمانية، وهو ما جعل قانون تعزيز القيم الجمهورية يصبح قانوناً تمييزياً يستهدف فئات وشرائح معيّنة في المجتمع لدفعها إلى الاندماج تحت مظلة إجبارية تنبذها وترفض قيمها أو عقيدتها المكفولة بالحماية دستورياً.

إنّ الجدل الكبير حول ارتداء الحجاب ليس جديداً، إذ تعود جذوره إلى عام 2004، ورغم أنّ فرنسا لم تكن الدولة الأوروبية الوحيدة التي تحكمها علاقة متشدّدة مع الحجاب، فإنّها الدولة الأكثر صرامة مقارنة ببقية الدول الأوروبية في تطبيق القوانين العنصرية ضدّ المكوّن الإسلامي.

ألمانيا على سبيل المثال تحكمها علاقة أكثر تفهماً وتسامحاً مع بقية الأيديولوجيات والأديان، أما بلجيكا التي حذت حذو فرنسا لفترة معينة فقد تراجعت عن حظر الحجاب في الأماكن العامة وسمحت بارتداء "البوركيني" أو ما يُعرف بـ"المايوه الشرعي" في عام 2018 بعد شكاوى قدمها مواطنون للقضاء، كما كان في النمسا حظر على الحجاب في المدارس لكن المحكمة الدستورية أبطلت ذلك في عام 2020، لأنّ القضاة اعتبروا أنّ ذلك ينتهك مبدأ المساواة.

سعى البرلمان الفرنسي خلال فترات مختلفة إلى إقرار تشريعات تحدّ من حريّة النساء في ارتداء ملابس وفقاً لرغباتهن، فقد مُنع ارتداء الحجاب أو أي رمز ديني من طرف الأشخاص المرافقين للتلاميذ في الرحلات المدرسية، وسُمح للمسابح العامة بمنع ارتداء "البوركيني"، كذلك مُنع ارتداء أي رمز ديني في الأماكن العامة، في تجاوز للقوانين العلمانية ودستور الدولة الفرنسية الذي يكفل حرية المعتقد وأداء الشعائر الدينية وحريّة اللباس، كما وصل بهم الأمر إلى السماح للشركات العامة والخاصة بحرية تطبيق القانون، وهو إجراءٌ منَع النساء المسلمات من التوظيف وحرمهنّ من الوصول إلى مناصب عليا في الدولة، أو المشاركة في المسابقات الرياضية.

جعلت هذه الأزمة فرنسا محلاً للانتقاد من لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، التي دعتها إلى ضرورة مراجعة ملفات حقوق الإنسان وعدم التعدي على الحقوق المدنية والسياسية، وهو أمر سبّب لها إحراجاً دولياً.

تبدو أزمة فرنسا مع الحجاب كأنّها قضية إذابة متعمّدة لمكوّن اجتماعي ضمن مكوّن أكبر، لا حماية المكوّن الأكبر من خطر المكون الاجتماعي الأقل عدداً وتأثيراً، فأيُّ دولة تتمتع بالثقة المجتمعية والقانونية قد تتخوف من خطر أقلية غير مؤثرة وتسعى إلى محو وجودها الثقافي والاجتماعي والحد من ظهورها أسوة بالمكونات الاجتماعية الأخرى؟

تتعدى أزمة منع الحجاب قضية منع الرموز الدينية في المؤسسات الحكومية والأماكن العامة، ويتحول الحديث عنها اليوم عن إمكانية اعتبار المسلمين -الذين يشكلون عدداً مهماً في فرنسا- جزءاً من المجتمع الفرنسي أو إنكار تلك الصفة عنهم، تبعاً لأداء شعائرهم الدينية التي تشكل خطراً على علمانية الدولة الفرنسية، وفق ما أوضحت خفايا قانون تعزيز القيم الجمهورية. ذلك أنّ الصورة التي صدّرتها الحكومة ليست سوى تجميل لما اصطلح عليه ماكرون بـ"الانعزالية الإسلامية"، إذ أعلن عن تخوفاته من تشكيل الجماعات المسلمة مجتمعات و"كانتونات" داخل الدولة الفرنسية في تمهيد منه لضرب الإسلام السياسي، وفق مزاعمه.

ما زالت فرنسا تتعامل مع الأقليّات غير الفرنسية والمسلمة منها على وجه التحديد باستعلاء وفوقية طاعنة، باحتكارها الفكر التحرري واتهام من لا يشاطرها الرأي بالتخلف وقلّة الوعي، ومحاولة فرض شكل معيّن من التحرر عليهم، وتمرير مشاريعها من خلال امتلاك أجساد النساء ومحاولة فرض سلطة معيّنة عليها، إذ تسعى وغيرها من الدول الأوروبية إلى حظر الحجاب أو النظر إلى النساء اللائي يرتدينه بنظرة استعلاء وتكريس صورة نمطية تحدّد مواصفات التحرر والوعي، وترتبط هذه الصورة النمطيّة بحصر فكرة التحرر بالنساء اللواتي يرتدين ملابس وفق طراز معيّن تفرضه ثقافة المجتمع الأوروبي وعاداته وقيمه.

يبدو النقاش حول القيم الجمهورية وتعزيز علمانية فرنسا شأناً سياسياً بحتاً، لكنّه في الواقع يتعدى ذلك للتدخّل في الحريات الشخصية للأفراد ويفرض على النساء المسلمات لباساً معيناً وشكلاً مناسباً للعُرف الاجتماعي الفرنسي، غير أنّ اختلاف الثقافة لا يعني تفوّق مجتمع على آخر ولا يعني افتراض أن تشكل الثقافة المستهدفة خطراً على الثقافات الأخرى.

يصبح الوضع القائم معقداً مثلما يكون مشوّشاً، فكيف للحريات الشخصية التي تكفلها الدساتير وتتفوق فرنسا في ادّعاء حمايتها أن تصبح مسألة أمن قومي؟ وقد تشكل خطراً يمهد لنزعات انفصالية ويؤدي إلى تفكك الدولة الفرنسية، وإذا كان هنالك من يدافع عن حرية ارتداء الملابس لغير المحجّبات فمن المبدأ نفسه أن تسري القاعدة ذاتها على المحجبات.

إنّ مسألة اختراع الخطر ودفع المواطنين إلى التركيز على وجوده ووجوب التصدي له خدعة قديمة ما زالت تستخدمها الدول حتى اليوم، غير أنّ الإضافة التي قد تشكلها فرنسا اليوم أو غيرها من الدول التي تعتنق الفكر ذاته هي التغطية على المشكلات الداخلية باختراع خطر أهم وأكبر يُفترض التضامن لأجله والتعالي عمّا سواه وتجاهل المشكلات التي تمس حياة المواطن الفرنسي، وإشعار المواطن الفرنسي أنّ وجوده مهدّد بسبب خطر وجود مكونات اجتماعية أخرى، وهي بتغذية النزعة القومية التي تُعلي في جوهرها قيمة الإنسان الفرنسي، وتحط من قيمة سواه وفق معايير اللون والعرق والدين والجنس، وتؤسس لانقسام مجتمعيّ بين المواطنين الفرنسيين الذين يفترض مساواتهم أمام القانون.

إنّ سلسلة القوانين التي بدأت فرنسا بسنّها أو الإجراءات التي بدأت بتنفيذها تتوافق مع الصورة العالمية التي تحاول تكريس الفرق بين الأديان، وتوضح إصابة الحكومات بمتلازمة الإسلاموفوبيا وربط الإسلام بصفات "الإرهاب" و"التخلف" و"عدم الوعي"، كما تؤسس لمجتمع تتمتّع فيه فئات بحقوق امتلاك القرار في ما يخص جسدها وشكل الزي الذي تودّ ارتداءه، فيما تحرم فئات أخرى من الحق نفسه، ما يؤدي إلى شعور بالدونية وانعدام العدالة، وهو أمر كافٍ في حد ذاته لأن يؤدي إلى الانقسام الذي تتخوف فرنسا من حدوثه.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً