بعد عملية حركة حماس بتاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لم يكن مفاجئاً مسارعة الحكومة الألمانية للتعبير عن وقوفها الكامل مع إسرائيل وتأكيد حقها في الدفاع عن نفسها لمواجهة ما سمته "التهديد الوجودي" الذي تشكله حركة حماس.
كما أكد صُنّاع القرار السياسي الألماني، وفي مقدمتهم المستشار الألماني أولاف شولتس ووزيرة خارجيته آنالينا بيربوك، على المسؤولية التاريخية لألمانيا تجاه إسرائيل بسبب محرقة اليهود (الهولوكوست) إبان الحكم النازي.
ولا شك أن هذه المحرقة مثلت سقوطاً سياسياً كبيراً لألمانيا ما تزال تداعياته ملموسة حتى اليوم، وإذا كانت محرقة اليهود قد شكلت سقطة سياسية تاريخية لألمانيا، فإنّ دعمها اليوم للممارسات العسكرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين هي سقطة سياسية وأخلاقية جديدة.
بسبب العبء الأخلاقي التاريخي، كان لزاماً على السياسة الألمانية البحث عن أدوات جديدة للتعامل مع المعطيات التي يفرضها الواقع، وبينما حاولت ألمانيا النأي بنفسها عن المشاركة في أي أعمال عسكرية مباشرة، فإنها انتهجت مقاربة جديدة في سياستها الخارجية ارتكزت -من ضمن أمور عدة- على المشاركة السياسية كوسيط فاعل في المجتمع الدولي؛ لحل الخلافات الدولية والتركيز على مبادئ وقيم حقوق الإنسان والعمل على نشرها عالمياً.
من خلال هذه المقاربة، صنعت ألمانيا لنفسها صورة على أنها البلد الذي تحظى فيه حقوق الإنسان وحريات التعبير والرأي والمشاركة السياسية بقَدَاسَة استثنائية، وأثبت ذلك بالفعل باستقبالها نحو مليون لاجئ سوري، ومع ذلك، تعاني ألمانيا مؤخراً من اهتزاز شديد لصورتها في العالم العربي والإسلامي؛ بسبب ازدواجية معايير مفضوحة للحكومة الألمانية الحالية.
عندما نتذكر مثلاً كيف تعاملت الحكومة الألمانية والإعلام الألماني مع دولة قطر غداة استضافتها بطولة كأس العالم الأخيرة 2022 بالتشديد على ضرورة ضمان الحريات والحقوق للجميع من دون استثناء، وعندما نشاهد كيف تقيّد هذه الحكومة اليوم حرية المتعاطفين مع القضية الفلسطينية وتطالب الجميع علناً بدعم إسرائيل، بل تذهب أصوات أبعد من ذلك وتطالب بتجريم المؤيدين للقضية الفلسطينية أو سحب جنسياتهم أو إنهاء إقاماتهم، فهنا يصبح من المنطقي التشكيك بقَدَاسَة هذه الحقوق والقيم.
أسباب الانحياز الألماني لإسرائيل
تُصرّ ألمانيا على الانحياز التام لإسرائيل، متجاهلة الموقف العربي -الشعبي والرسمي- بشكل كامل، وهنا يطرح السؤال نفسه، فيما إنْ كان هذا الانحياز لاعتبارات أخلاقية فقط، أم إن هناك حسابات استراتيجية وجيوسياسية يمكنها تفسير الأمر؟
تحتّم علينا المناقشة الموضوعية لهذا التساؤل والإشارة إلى حقيقة أن الحكومة الألمانية الحالية والحكومات السابقة المتتابعة تجد نفسها أسيرة الماضي النازي.
ويمكن عزو الانحياز الألماني التام لإسرائيل مقابل الإدانة الشديدة لحماس إلى حقيقة أن التأثير السياسي للعملية العسكرية الأخيرة يبدو كبيراً لدرجة أنه أربك حسابات الجميع بشأن ما يمكن أن يحدث مستقبلاً.
وبصرف النظر عن الأسباب والمآلات والنتائج، فإنه لا خلاف حول أن العملية بعثت برسالة مفادها أنه لدى قوى المقاومة الفلسطينية قدرات واستراتيجيات من شأنها وضع إسرائيل في موقف حَرِج عسكرياً وسياسياً.
كما أن هناك بعض المعطيات التي تدعم صحة الفرضية القائلة إن "دعم ألمانيا لإسرائيل حتمي ولا نقاش فيه"، ويكفي أن نشير هنا إلى أن "استراتيجية الأمن القومي" التي أعلنت عنها الحكومة الألمانية في شهر يونيو/حزيران الماضي، لم تأت على ذكر منطقة الشرق الأوسط ودولها، وكان الاستثناء الوحيد التشديد على أن أمن إسرائيل جزء من الأمن القومي الألماني، وأن "حمايتها وحقها في الوجود هي مصلحة قومية لألمانيا".
إن القول إن أمن إسرائيل هي مصلحة قومية (Staatsräson) يحمل في طياته جانبين مهمين، الجانب الأول أن المسألة بجوهرها مسألة سياسة دولة ومصالح عُليا للدولة، أي إنها غير قابلة للنقاش وغير مرتبطة بحكومة معينة (من المهم الانتباه هنا للتمايز بين الدولة والحكومة في بُنية النظام السياسي).
والجانب الثاني أن المسألة، وبما أنها مسألة دولة، فهي خارجة عن إطار النقاشات الأخلاقية، أي إن السؤال فيما إن كانت هذه السياسة صحيحة أو خاطئة فهو غير مطروح أساساً.
يجسد الموقف الألماني انعكاساً للموقف الغربي العام المتضامن تماماً مع إسرائيل والذي يلقي بالمسؤولية الكاملة عن التصعيد على الجانب الفلسطيني، وعندما يكون الحديث عن مصالح عُليا للدول وعن تقاطعات في المصالح المشتركة تؤدي لتحالفات بين الدول، فنحن هنا في ظل النظرية الواقعية الخاصة بالسياسات الدولية المرتكزة على القاعدة المكيافيلية "الغاية تبرّر الوسيلة" التي تجعل من توسيع النفوذ الغاية الأسمى للدول وتطيح بالقيّم الأخلاقية خارج قواعد اللعبة السياسية.
بنظرة واقعية، لا تملك ألمانيا أهدافاً توسعية إمبريالية بالمعنى الفعلي للكلمة، لكنها تحاول العودة إلى مكانتها على خريطة القوى العالمية، وهي تدرك أن ذلك لن يتحقق إلا بوجودها في صف المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
فيما يتعلق بألمانيا، هناك قواسم مشتركة مع التحالف الغربي، منها الديمقراطية الليبرالية ودولة القانون وحقوق الإنسان، ورغم أهمية هذه القيم السياسية، إلا أنها ليست كافية وحدها لضمان تماسك المعسكر الغربي، والحقيقة أن العامل الذي يحدد جوهر وإطار عمل هذا المعسكر هي المصالح الأمنية والاستراتيجية والجيوسياسية المشتركة.
الحكومة الألمانية تواجه ضغوط الداخل
في الوقت الذي تتوسع فيه دائرة الجدل داخل ألمانيا حول سياسة اللجوء والهجرة، وخصوصاً في ظل الصعود المتواصل لليمين المتطرف والشعبوية المعادية للعرب والمسلمين، تحاول الحكومة الألمانية إثبات هويتها الأوروبية والغربية لطمأنة الشريحة من المجتمع التي تشعر بنوع من القلق على هويتها، ويصب إعلانها الدعم غير المحدود لإسرائيل في هذه الخانة بشكل أو بآخر.
تمثل أحداث غزة الحالية اختباراً حقيقياً لمنظومة القيم السياسية والأخلاقية التي تتبناها الدول والحكومات، ولا نبالغ إذا ما قلنا إن الحكومة الألمانية أخفقت في هذا الاختبار إخفاقاً شديداً للغاية؛ لأنها لم تكتفِ بانحيازها التام لحكومة نتنياهو، بل حاولت تكميم أفواه المتضامنين السلميين مع القضية الفلسطينية، وخرجت تصريحات من سياسيين وصحفيين ألمان يتهمونهم بالإرهاب ومعاداة السامية.
ونتيجة لذلك، يشهد الداخل الألماني منذ أسابيع جدلاً مُحتَدِماً حول الحريات والحقوق الأساسية التي يكفلها القانون الأساسي (الدستور) الألماني بسبب محاولات السلطات منع المؤيدين للقضية الفلسطينية من تنظيم مظاهرات للتعبير عن رفضهم للعنف الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي ضد سكان القطاع، الأمر الذي اضطر المنظمين للّجوء للمحكمة الدستورية العليا وطلب ترخيص لهذه المظاهرات، وهو ما حدث لاحقاً.
ومع ذلك، يبدو أن هناك مشاريع قرارات حكومية يجري العمل عليها لتشديد أحكام "معاداة السامية" بتجريم كل من يؤيد القضية الفلسطينية وينتقد إسرائيل، وقد بدأت بوادر ذلك بإعلان ولاية ساكسونيا أنهالت بأن الاعتراف بحق إسرائيل بالوجود هو شرط جديد للحصول على الجنسية الألمانية في الولاية.
تلعب وسائل الإعلام الألمانية المختلفة دوراً كبيراً في تشكيل الرأي العام الألماني، لكن اللافت هو تناولها الملف الفلسطيني بشكل متطابق إلى حد كبير، إذ إن هذا الإعلام يقتصر في تغطيته للتطورات على المنظور الألماني والغربي ويتجاهل الموقف الفلسطيني والعربي إلى حدٍّ كبير، وهكذا، يجد المتابع لوسائل الإعلام الألمانية إعادة أو محاكاة لسردية الحكومة الإسرائيلية.
وبسبب الضغوط التي مارستها الجالية الفلسطينية والعربية والمسلمة واستغلالها لوسائل التواصل الاجتماعي لتعريف الرأي العام الألماني بحقيقة ما يجري، اضطر الإعلام الألماني للتراجع قليلاً وإظهار بعض من المشاهد الدموية والمأساة اليومية لسكان قطاع غزة.
وحتى الحكومة الألمانية وجدت نفسها -ولو في وقت متأخر- مضطرة لإظهار بعض التعاطف مع الضحايا الفلسطينيين وطالبت بدخول المساعدات الإنسانية لسكان القطاع بشكل عاجل، لكن مقابل هذه المساعدات الإنسانية لسكان القطاع توجد أيضاً مساعدات عسكرية ومالية للحكومة الإسرائيلية، وهكذا نعود مجدداً لثنائية السقوط سياسياً وأخلاقياً.
ورغم صعوبة الأمر والجدل الحاصل، إلا أن ألمانيا سمحت للمتعاطفين مع غزة بالخروج في مظاهرات والتعبير بحرية عن مواقفهم، ويؤكد ذلك أن الديمقراطية الألمانية ما تزال قوية، لكن من المهم مراجعة ما حدث بموضوعية حتى تبقى القيم الديمقراطية قادرة على الاستمرار مستقبلاً.
بوادر تعديل في السياسة الألمانية؟
نظراً للضغوط الواسعة من الداخل والخارج، تحاول الحكومة الألمانية حفظ ماء الوجه بترويجها لمقولة إنها "تشعر بالقلق لسقوط أعداد كبيرة من الضحايا الفلسطينيين"، لكن ذلك لا يترافق مع قرارات ملموسة يمكن من خلالها الاعتقاد بأن ألمانيا عدلت سياستها تجاه القضية الفلسطينية.
في الحقيقة، يبقى من المستبعد خروج ألمانيا من المعسكر الغربي الداعم لإسرائيل، بل ربما على العكس، فالأحداث الأخيرة أظهرت أن ألمانيا عنصر رئيس في هذا المعسكر، ويمثل ذلك إشكالية كبيرة لمستقبل الحل السياسي، فرغم أن ألمانيا ما تزال تدعم حل الدولتين، إلا أن انحيازها التام لإسرائيل وعدم مراعاتها لوجهات النظر الفلسطينية والعربية يجعل منها وسيطاً غير نزيهٍ في حل الصراع.
إن لعب دور الوساطة في قضايا إقليمية ودولية مثل القضية الفلسطينية والملف النووي الإيراني يشكل بالتأكيد ورقة سياسية لألمانيا؛ لأنها تساعدها في تقديم نفسها كلاعب فاعل ومؤثر في المنطقة، ويمكن الافتراض أن حكومة المستشار شولتس تشعر اليوم أنها مهددة بخسارة هذه الورقة؛ بسبب موقفها من الأحداث الأخيرة، والأمر ذاته ينطبق على إدارة الرئيس الأمريكي بايدن.
وعلى ما يبدو، فإن ألمانيا وبشكل موازٍ مع الإدارة الأمريكية تحاول نشر سردية جديدة من خلال بعض الإجراءات من قبيل ما أعلنته وزارة الخارجية الألمانية مؤخراً بأنها تدرس منع مستوطنين إسرائيليين متطرفين من دخول أراضيها، وتزامن ذلك مع تصريحات مفاجئة للرئيس بايدن انتقد فيها حكومة نتنياهو بسبب سياساتها تجاه قطاع غزة.
لا يعني ذلك أن الحكومة الألمانية ستغيّر موقفها رأساً على عقب، ولكن من المهم أن تعود ألمانيا والدول الغربية للموضوعية والعقلانية في تعاملها مع القضية الفلسطينية والصراع في الشرق الأوسط؛ لأن المنطقة تعاني أصلاً هشاشة أمنية ولا تحتمل هزة جديدة، لأن النتيجة قد تكون انفجاراً في الأوضاع يشمل المنطقة كلها وربما خارجها أيضاً.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.