تابعنا
سمحت واشنطن أيضاً للاحتلال الإسرائيلي بفرض حصار اقتصادي على القطاع يشمل الماء والغذاء والكهرباء والوقود، فيما اقتصر تدخلها على إقناع تل أبيب بالسماح بإدخال كميات قليلة من المساعدات لا تسدّ الرمق، وكل ذلك تحت حجة ضرب قواعد حركة حماس.

رَمَت الولايات المتحدة بثقلها خلف إسرائيل بعد النكبة التي حلّت بها إثر هجمات منسَّقة ومنظَّمة للمقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، سقط فيها أكثر من 1400 إسرائيلي، وأحدثت هزة كبيرة في "دولة" تزعم تفوقها عسكرياً وأمنياً على محيطها، ويتمتع جيشها بمكانة متقدمة جداً بين جيوش العالم!

إلا أنّ هرولة قادة البيت الأبيض إلى دعم حليفهم الاستراتيجي الأول في المنطقة ومساندته؛ لإنقاذه من تراجع خطير في دوره ومكانته في المنطقة كحصن متقدم للاستعمار، محملة بهاجس أن تتسبّب ردة الفعل غير الموزونة لإسرائيل في إلحاق الضرر بالكيان نفسه، وجر الولايات المتحدة إلى حرب إقليمية ستؤدي إلى الإخلال باستراتيجية الحرب التي تخوضها على جبهتَي حرب أوكرانيا والتصدي للنفوذ الصيني المتعاظم.

دعم مطلق

وأبدت واشنطن دعماً مطلقاً وبلا قيود لإسرائيل، وأرسلت ذخائر وصواريخ وفرقة "دلتا" المتخصصة في تحرير الرهائن، كما نشرت بطاريات "ثاد" (وهي منظومة اعتراض صواريخ على ارتفاعات عالية جداً)، فضلاً عن تقديم 14.5 مليار دولار معظمها للأسلحة والذخائر، واستدعاء حاملتَي طائرات للمنطقة.

وأطلقت الإدارة الأمريكية يد قوات الاحتلال لتدك قطاع غزة على رؤوس ساكنيه، واستهداف المدنيين بلا قيود أو ضوابط، بما في ذلك قتل آلاف الأطفال وقصف المستشفيات والمرافق المدنية، واستهداف الصحفيين، واستخدام الأسلحة المحظورة والمحرمة دولياً مثل الفسفور الأبيض.

وسمحت واشنطن أيضاً للاحتلال الإسرائيلي بفرض حصار اقتصادي على القطاع يشمل الماء والغذاء والكهرباء والوقود، فيما اقتصر تدخلها على إقناع تل أبيب بالسماح بإدخال كميات قليلة من المساعدات لا تسدّ الرمق، وكل ذلك تحت حجة ضرب قواعد حركة حماس.

كما حالت الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي دون إدانة استهداف المدنيين، أو حتى التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، وذلك لتكثيف الضغوط على المقاومة وضرب حاضنتها الشعبية وتأليبها عليها.

إلا أنّ الإدارة الأمريكية سعت منذ البداية للتحكم في مجريات الردّ الإسرائيلي من خلال الضغط لتشكيل حكومة طوارئ وطنية ضمت جنرالَين للاحتلال من المعارضة، وعلى رأسهم وزير الحرب السابق بيني غانتس، الذي يتمتع بعلاقات جيدة مع واشنطن، على عكس نتنياهو ووزرائه بن غفير وسموتريتش، اللذَين دخلا في خلافات مع الولايات المتحدة على خلفية التعديلات القضائية.

شكوك أمريكية

ومع تباشير الحرب البرية، وإعلان إسرائيل نيتها الدخول في اجتياح بري لقطاع غزة، بدأت تتوارد الإشارات الأمريكية التي بدأها الرئيس جو بايدن بالتحذير من إعادة احتلال غزة، ثم توالى تشكيك المسؤولين في البيت الأبيض بمدى استعداد إسرائيل لخوض الحرب البرية، والعواقب المحتملة لها، والتصور لما بعد حماس في غزة.

وقال الرئيس الأمريكي إنّه يعمل على ضمان امتلاك إسرائيل ما تحتاج إليه "للدفاع عن نفسها"، لكن مع ذلك، يشكك المسؤولون الأمريكيون في قدرة إسرائيل على النجاح في تحقيق الأهداف التي أعلنتها للحرب البرية، وهي إنهاء الحكم العسكري والمدني لحماس، واستعادة الأسرى.

إنّ التدخل الكثيف للولايات المتحدة يستند أساساً إلى أنّ إسرائيل باتت في موقف ضعيف ومهزوز بعد "طوفان الأقصى"، وأنّها قد تلجأ إلى خيارات متسرّعة نابعة من غريزة الانتقام، لذلك عملت في البداية على تأجيل الحرب البرية إلى حين ضمان استكمال إسرائيل استعداداتها العسكرية لخوض معركة طاحنة مع حماس التي تمتلك استحكامات كبيرة، وشبكة أنفاق معقدة، فضلاً عن عقيدة قتالية صلبة، بما يوقع المئات من جنود الاحتلال في حال شن حرب برية شاملة.

ويبدو أنّ العسكريين الأمريكيين توصلوا إلى قناعة بصعوبة نجاح الاحتلال الإسرائيلي في الهجوم البري الشامل الذي كانت تعدّ له، واحتمال تعرضها لهزيمة ثقيلة في هذا الهجوم، بما يؤدي في النتيجة إلى تعزيز مكانة حماس وإضعاف حليفها الاستراتيجي، وتعقيد مهمة واشنطن والإضرار بمكانتها في المنطقة، وتعريض علاقاتها مع الدول العربية الحليفة للاهتزاز، وتوجيه ضربة قوية لمساعي التطبيع مع العالم العربي.

ومن أسباب تأجيل الحرب البرية كذلك، ضمان استكمال الاستعدادات الأمريكية الحربية في المنطقة، تخوفاً من توسع دائرة الحرب، واحتمالات دخول إيران وميليشياتها فيها في حالة الهجوم البري الشامل.

ولذلك، سعت واشنطن لتجنب هذا الاحتمال، وأرسلت تحذيرات قوية إلى إيران من التدخل، فيما نصحت تل أبيب بتغيير خططها للدخول البري الكامل إلى قطاع غزة إلى عملية "جراحية"، تُنفَّذ من خلال غارات جوية وغارات برية تستهدف كبار مسؤولي حماس والبنية التحتية لها.

وأجبرت إدارةُ بايدن حكومة نتنياهو على التعامل مع خطة لوقف إطلاق نار مؤقت، يشمل إطلاق حماس عشرات المدنيين والنساء مقابل إطلاق إسرائيل معتقلات وأطفالاً من سجونها، وفتح معبر رفح لدخول المساعدات الإنسانية والوقود إلى غزة، وهي صفقة يبدو أنّها في طور الإنجاز، وهو ما يفسر الهجوم البري الذي نفّذه الاحتلال شمال قطاع غزة بهدف الضغط على حماس لتحصيل مكاسب منها.

مقعد بمجلس الحرب الإسرائيلي

وقال الكاتب في صحيفة "هآرتس" العبرية ألون بنكاس، في 26 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إنّ أمريكا تحتفظ بمقعد ثابت في مجلس الحرب الإسرائيلي، لافتاً إلى أنّ "التدخل الأمريكي السياسي والعسكري كبير جداً على صعيدَي الحجم والعمق".

ويضيف بنكاس: "يبدو أنّ هذا التناقض صعب الفهم، لكنَّ هذا هو الواقع، ولن تقول واشنطن لإسرائيل ما يجب عليها القيام به وكيف -على المستوى التكتيكي العملياتي- لكنها لها مفهومها على المستوى الاستراتيجي، ومن المفضل أن تأخذه إسرائيل في الحسبان"، مبيناً أنّ "الرسالة كالتالي: نحن لا نقول لكم كيف عليكم الدفاع عن أنفسكم، لأننا ندعم حقكم الكامل في القيام بذلك بأكبر قوة ممكنة، لكن نوصيكم بالامتناع عن ذلك؛ القرار قراركم، لكن عليكم التفكير فيه جيداً".

وهذا يعني أنّ أمريكا ليست لديها الثقة بقدرة إسرائيل على إدارة الحرب، وأنّ فرصها في النجاح دون توجيه أمريكي قد تكون ضئيلة أمام "عدو" قال الاحتلال عنه إنه "ذكيّ ومنظم وشرس".

وربما تريد الولايات المتحدة من إسرائيل إدارة الحرب على غزة على نمط معركة الموصل في العراق ضدّ تنظيم "داعش" الإرهابي، على اعتبار تشابه تعداد السكان والبيئة إلى حدّ ما مع القطاع، وكذلك تريد واشنطن تكثيفاً للهجوم الجوي مع تنفيذ هجمات برية مكثفة ومركّزة، الأمر الذي يحتاج إلى أشهر عدّة، حيث احتاجت أمريكا إلى 9 أشهر لهزيمة "داعش" الإرهابي.

غير أنّ أمريكا وإسرائيل تدركان أنّ غزة بأنفاقها وتحصيناتها، وبمعرفة مقاتلي حماس بها، ليست كالموصل، وأنّ حماس بقاعدتها الشعبية العريضة وامتداداتها في الداخل والخارج تختلف تماماً عن تنظيم "داعش" الإرهابي، الذي كان منبوذاً من الأمة، وهذا ما دفع قادة مجلس الحرب الإسرائيلي إلى القول إنّ "إسرائيل تواجه مهمة صعبة ومعقدّة".

وأكد قادة المجلس أنّهم يسعون لما يسمّونه تغييراً استراتيجياً في غزة بعد العملية، يتضمن حلاً سياسياً يُبقي إسرائيل خارج القطاع، ولكن من الواضح للأمريكيين وغيرهم أنّ هذه الحكومة تعاني خلافات بين أقطابها، وما بين المستويين السياسي والعسكري، بشكل يجعلها عاجزة عن الاتفاق على صيغة سياسية لما بعد الحرب.

وبالتالي إسرائيل لا تملك أي أفق لحل سياسي مع أي جهة فلسطينية قد تعتقد أنّها يمكن أن تحل محل حماس في القطاع، فقد كان إغلاق هذه الحكومة الأفق السياسي، وسياساتها الاستيطانية في الضفة والتهويدية في القدس؛ سبباً مهماً لحدوث هجمة 7 أكتوبر/تشرين الأول.

وهكذا تبدو مهمة الحكومة الأمريكية مع حكومة الاحتلال صعبة، فيما يبدو أنّ هدف الأخيرة سحق حركة حماس مستحيلاً، وقد تواجه فشلاً أعمق من فشل صدّ عملية "طوفان الأقصى".

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً