تابعنا
نسج كيسنجر علاقات مميزة مع إسحق رابين سفير إسرائيل في واشنطن عام 1969، وتوصل معه إلى تفاهمات غير معلنة حول السكوت عن برنامج إسرائيل النووي، كما تعهّد أن بلاده لن تضغط على إسرائيل للانسحاب الشامل من الأراضي التي احتلتها في حرب يونيو/حزيران 1967.

اسم هنري كيسنجر في العالم العربي يثير شيئاً من الغَثَى والألم والغضب، فاسمه مرتبط بتغيير خارطة الشرق الأوسط تماماً، بعد أن استطاع الاستفراد بمصر وإبعادها عن حاضنتها العربية، ورسم خارطة طريق لاتفاق سلام منفرد بينها وبين إسرائيل، بدأ مباشرة بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ووصل ذروته مع توقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1979.

والمأثرة الثانية والخطيرة التي رُبطت باسم كيسنجر، هي مذكرة التفاهم التي وقعها مع إسرائيل حول شروط الولايات المتحدة للاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، التي ظلت تحكم تصرفات الدولة العظمى حتى استجابة منظمة التحرير لتلك الشروط عام 1988.

عمل هنري كيسنجر مستشاراً للأمن القومي عام 1969 في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، وفي عام 1973 أُسندت إليه وزارة الخارجية في نهاية عهد نيكسون، وتابع في المنصبين في عهد الرئيس جيرالد فورد، وهو السياسي الوحيد الذي جمع بين أعلى منصبين في إدارتين متعاقبتين.

كان همّ كيسنجر الأول هو تهميش وهزيمة الاتحاد السوفييتي، وفتَح خطوطاً على الصين، ليس حُبّاً فيها، بل من أجل توسيع جبهة العزلة حول الاتحاد السوفييتي، وهو الذي عبَّد الطريق لزيارة نيكسون إلى الصين في فبراير/شباط عام 1972، بعد زيارته السرية إلى الصين، انطلاقاً من باكستان في نوفمبر/تشرين الثاني 1971.

مع إسرائيل في مواجهة العرب

نسج كيسنجر علاقات مميزة مع إسحق رابين، سفير إسرائيل في واشنطن، عام 1969، وتوصل معه إلى تفاهمات غير معلنة حول السكوت عن برنامج إسرائيل النووي من جهة، ومن جهة أخرى تعهَّد لرابين بأن الولايات المتحدة لن تضغط على إسرائيل للانسحاب الشامل من الأراضي التي احتلتها في حرب يونيو/حزيران 1967.

دفع وزير الخارجية آنذاك، وليام روجرز، بمشاركة أحد مساعديه، جوزيف سيسكو، نحو إيجاد حل لأزمة الشرق الأوسط، وأقنع الرئيس نيكسون بذلك.

أعد روجرز خطة سلام شاملة في الشرق الأوسط، تبدأ بوقف حرب الاستنزاف بين إسرائيل ومصر لمدة 90 يوماً، ثم تبدأ العملية الواسعة بإجراء مفاوضات شاملة لإعادة الأراضي التي احتلتها إسرائيل من مصر والأردن وسوريا، وفق قرار مجلس الأمن 242 (1967)، مقابل الاعتراف بإسرائيل وإنهاء حالة الحرب.

عارض هذه الخطة هنري كيسنجر، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي آنذاك، وأراد نيكسون ووزير خارجيته العمل على إيجاد حل سياسي يدعم الدول المعتدلة، مثل الأردن ولبنان، اللتين كانتا تواجهان تهديداً متزايداً من القوى "المتطرفة"، خصوصاً من الفدائيين الفلسطينيين المنتشرين في البلدَين قريباً من الحدود مع إسرائيل.

كيسنجر كان متفقاً مع الإدارة أن "التطرف" المتزايد للفلسطينيين كان نتيجة للجمود في الشرق الأوسط، لكنه شعر بأن الوضع العام أفاد الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية وسيضطر الاتحاد السوفييتي إلى الضغط على حلفائه مصر وسوريا للحصول على تنازلات كبيرة.

عرضت الخطة التي أطلق عليها "مبادرة روجرز" في يونيو/حزيران 1970 على الرئيس المصري جمال عبد الناصر، فقبل الخطة لأسباب تكتيكية، إذ كان يبني شبكة الصواريخ المضادة للطائرات بالتعاون مع الاتحاد السوفييتي، كما كانت مصر تخوض حرب استنزاف سنتَي 1968 و1969، وكان يريد هدنة لبناء شبكة الصواريخ.

وبالفعل توقفت الاشتباكات، لكن الفصائل اليسارية في المقاومة الفلسطينية نظمت سلسلة مظاهرات وبيانات تنتقد قبول عبد الناصر بمشروع روجرز، ما أدى بالسلطة الأردنية إلى استغلال هذا الوضع وشنت هجمات قوية ضدّ قواعد الثورة الفلسطينية، انتهت بإخراج المقاومة من عمّان والمدن الكبرى إلى منطقة الأحراش في الشمال.

تُوفي جمال عبد الناصر، بعد قمة طارئة لوقف الاشتباكات بين الثورة الفلسطينية والقوات الأردنية، وتولى أنور السادات الرئاسة في مصر، وهو مختلف تماماً عن جمال عبد الناصر فكراً وتوجُّهاً.

ماتت مبادرة روجرز في فبراير/شباط 1971، لأن إسرائيل لم تلتزم موضوع التفاوض على تنفيذ القرار 242 (1967)، وقد نجح كيسنجر في إفشال المبادرة التي كان يظن أنها تضرّ بأمن إسرائيل، إذا ما انسحبت من الأراضي التي احتلتها عام 1967.

استطاع كيسنجر أن يُقنع الرئيس المصري الجديد أنور السادات عام 1972 بطرد الخبراء السوفييت من مصر، وقد كان يزيد عددهم على 20 ألف خبير عسكري وفني، لكن الدفع بعملية السلام لم يحدث، ما اضطر القيادتين في مصر وسوريا إلى أن تبادرا بالهجوم يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973 على القوات الإسرائيلية في سيناء والجولان السوري، وتحققان اختراقات هائلة.

اجتمع المسؤولون الكبار في الولايات المتحدة الأمريكية في اليوم الأول للحرب، وقرروا "منع نصر عربي في الحرب"، كما جاء في مذكرات كيسنجر (سنوات البيت الأبيض 1977).

وقد صحّح كيسنجر الحكاية التي زعمت أن غولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل، هي التي رفضت وقف إطلاق النار، كما أن كيسنجر هو الذي عارض بشدة فرض أي اتفاق على إسرائيل تسحب فيه قواتها إلى حدود عام 1967، رغم أن وزراء خارجية عرب زاروا واشنطن وعرضوا "اعترافاً عربيّاً شاملاً بإسرائيل مقابل الانسحاب"، متبجّحاً بالقول إن أي إدارة أمريكية مغايرة كانت ستسعى لحصول ذلك الاتفاق.

وبعد الحرب، أطلق كيسنجر، وتحت رعايته شخصيّاً مفاوضات فك الاشتباك، التي انتهت بتوقيع اتفاقية ونشر قوات حفظ سلام في سيناء تحت اسم "قوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة-2" (UNEF-2)، وانتقل إلى سوريا واجتمع مع حافظ الأسد ست ساعات متواصلة، وأفضت المفاوضات في النهاية إلى اتفاقية فض الاشتباك ونشر قوات الأمم المتحدة تحت اسم "قوة الأمم المتحدة لفض الاشتباك" (UNDOF).

وكان كيسنجر يسعى إلى إبعاد مصر عن الحاضنة العربية، ليتيح لإسرائيل أن تستفرد بالدول العربية واحدة بعد الأخرى، وهو ما حدث فعلاً بعد اتفاقية كامب ديفيد، فهو القائل: "لا حرب دون مصر، ولا سلام دون سوريا".

شروط الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية

بعد "حرب أكتوبر" وانعقاد مؤتمر جنيف للسلام في 21 ديسمبر/كانون الأول 1973 تحت رعاية الأمم المتحدة، وبإشراف شخصي من كيسنجر ومشاركة الاتحاد السوفييتي، باتت إسرائيل تخشى أن تعترف الولايات المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف.).

وجرى الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعيّاً ووحيداً للشعب الفلسطيني في مؤتمر عدم الانحياز في الجزائر عام 1973، وفي مؤتمر القمة في الرباط عام 1974، ومنحها مقعد المراقب في الأمم المتحدة بعد الزيارة التاريخية للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ليتحدث أمام الجمعية العامة باسم الشعب الفلسطيني.

تخوَّفت القيادة الإسرائيلية من تعاظم الاعتراف بالمنظمة، فاتفق كيسنجر مع إسرائيل بأن يوقع الطرفان "مذكرة تفاهم" بينهما تتضمن منع الإدارة الأمريكية من الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وعدم التفاوض معها ما لم تعترف "بحق إسرائيل في الوجود وضمن حدود آمنة ومعترف بها، وبعد أن تتخلى عن الكفاح المسلح (الإرهاب)، والاعتراف بقراري مجلس الأمن 242 (1967) و338 (1973) شروطاً مسبقة لاعتراف الولايات المتحدة أو التفاوض مع 'م.ت.ف.'"، كما نصت عليه المذكرة الموقعة في 1 سبتمبر/أيلول 1975.

وبقيت هذه المذكرة تحكم العلاقات الفلسطينية-الأمريكية حتى عام 1988، وفي دورة المجلس الوطني تلك في الجزائر، أُعلن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، لكن زوبعة الدولة المستقلة لم تُخف قبول الشروط الأمريكية جميعاً، التي صاغها كيسنجر وأدت في ما بعد إلى اتفاق أوسلو الخطير وقيام السلطة الفلسطينية التي أعفت إسرائيل من مسؤولية الاحتلال تحت ذريعة التفاوض بين الطرفين، ونحن نرى الآن أين وصلت مسيرة هذه المفاوضات.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي