أعلنت قطر للطاقة عن صفقة طاقة كبيرة مع شركة سينوبك الصينية في خطوة من المتوقع أن تعزز العلاقات بين البلدين / صورة: AFP (AFP)
تابعنا

لا تقتصر أهمية الصفقة مع الصين على كسر الأرقام القياسية بالجملة، باعتبارها الأكبر من حيث الحجم الذي يصل إلى 4 ملايين طن من الغاز المسال سنوياً، والأكبر من حيث القيمة التي تبلغ 61 مليار دولار، كما أنها الأطول من حيث المدة التي تصل إلى 27 عاماً.

فأهمية الصفقة تتمثل فيما حملته من دلالات على مستوى الجغرافيا السياسية للطاقة، بخاصة أنها تزامنت مع صفقة "رضوخ" ألمانيا للشروط القطرية لتزويدها بنحو مليونَيْ طن سنوياً من الغاز. وفي ما يلي أبرز تلك الدلالات:

تسهم الصفقة في ترسيخ موقع قطر مصدراً موثوقاً للغاز، لا يسمح للاعتبارات السياسية بتعطيل الإمدادات. وتبرز أهمية هذا العامل في ظل تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية والصراع الأمريكي-الروسي على ثلاثة مستويات:

الأول: تخوُّف الصين من الارتهان للغاز الروسي في ظل اهتزاز الثقة بروسيا مصدراً يمكن الاعتماد عليه بعد استخدامها الغاز سلاحاً في صراعها مع أوروبا، ما يعني إمكانية تكراره مع الصين في حال نشوب أي خلاف. بجانب المصاعب المتعلقة باستيراد الغاز الروسي في ظل العقوبات الأمريكية والأوروبية. يضاف إلى ذلك المخاوف السياسية والصراعات التي تعيق زيادة الواردات من روسيا بالاعتماد على خطوط الأنابيب.

الثاني: تخوف الصين من اشتعال المنافسة الدولية على إمدادات الغاز المسال، إما بسبب إرتفاع الطلب بعد انتهاء جائحة كورونا وإما بسبب "استماتة" الدول الأوروبية لتوفير مصادر بديلة عن الغاز الروسي. وكذلك لحاجتها إلى التوسع في استخدام الغاز وفاءً بتعهداتها بتقليص انبعاثات غازات الدفيئة ومكافحة التغير المناخي. وتسعى الصين لتوفير مصادر مستقرة لتلبية الطلب المحلي لأطول مدة ممكنة مع تجنب تداعيات التقلب الشديد للأسعار أو حروب مزايداتها. يضاف إلى ذلك سعي الصين للتوسع في استخدام الغاز، وتقليص اعتمادها الضخم على الفحم إذ تستهلك وحدها كمية تعادل ما تستهلكه دول العالم كافة.

الثالث: يجدر النظر إلى الاتفاقية أيضاً في سياق الصراع المفتوح بين أمريكا والصين حول تايوان. فتحرص الصين على توفير إمدادات مستقرة تشكل رديفاً أو بديلاً لواردات الغاز من أستراليا، التي تعتبر المورد الرئيسي للغاز إلى الصين وتوفر نحو ثلث إمداداتها. وذلك في ضوء تزايد التوتر المتعلق بتايوان واصطفاف أستراليا الطبيعي إلى جانب أمريكا. وكذلك في ظل تقادم آبار الغاز الأسترالية، وتعثر مشروع سكاربورو الضخم الذي "لا يزال قيد البحث عن الشركاء المناسبين لتمويله" على حد تعبير ميج أونيل الرئيس التنفيذي لشركة وودسايد الأسترالية للبترول والطاقة. بخاصة أن الشركة المالكة للمشروع لا تزال مترددة في اعتماد آلية العقود طويلة الأجل وهو أمر لا يناسب الصين.

قطر.. الحصان الأسود

ضمن هذه المعطيات، تعتبر قطر "الحصان الأسود" في السباق العالمي على الغاز، خصوصاً أن الولايات المتحدة التي تتربع على عرش الدول المصدرة للغاز إلى جانب روسيا وإيران، قد لا تصمد طويلاً على هذا العرش، في ظل التزاماتها تقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري، والتراجع النسبي لحماس المستثمرين والشركات على ضخ مزيد من الاستثمارات.

هذا فضلاً عن عدم امتلاكها مخزونات من الغاز الحر، واعتمادها على الغاز الصخري، مع تصاعد التحذيرات من المخاطر الجيولوجية لتقنية التكسير الهيدروليكي لاستخراج هذا النوع من الغاز. ويتوقع أن تصل أمريكا إلى ذروة إنتاج الغاز وتصديره في العام 2026 إذ ستنجح بزيادة صادراتها بنسبة 40 في المئة تقريباً خلال العامَين القادمَين، لتشهد بعد ذلك تراجعاً سريعاً في الإنتاج والقدرة التصديرية. وينطبق ذلك إلى حد بعيد على أستراليا التي بلغت ذروة إنتاجها، بخاصة من بعض الحقول القديمة.

وكل ذلك يترك قطر في موقع الصدارة بخاصة في ظل قدراتها غير المحدودة لضخ استثمارات ضخمة لتطوير طاقتها الإنتاجية ومرافق التسييل والتصدير. فدخلت قطر في شراكة مع عدّة شركات عالمية في مشروع توسعة حقل الشمال، مثل شركة "إكسون موبيل" و"توتال إنرجيز" و"إيني" و "شل" و"كونوكو فيليبس".

ويهدف المشروع الذي الذي تُقدّر تكلفته بنحو 29 مليار دولار، إلى زيادة طاقة إنتاج الغاز المسال من 77 مليوناً إلى 110 ملايين طن سنوياً بحلول 2025، ومن ثم إلى 126 مليون طن في 2027.

كما تُجري قطر مباحثات متقدمة مع شركات نفط صينية للاستثمار في توسعة القطاع الشرقي في "حقل الشمال". ويعتبر هذا الحقل، الذي يبلغ احتياطي الغاز القابل للاستخراج منه نحو 900 تريليون قدم مكعّب، أكبر مكْمن للغاز غير المصاحب في العالم.

ويلخص شكيب خليل الرئيس السابق لمنظمة "أوبك" وضع قطر بقوله: "إنها في وضع أفضل من أي دولة أخرى، فالمنافسون إما محاصرون بمشاكل سياسية مثل إيران وليبيا وروسيا وإما لا يملكون الموارد المالية الكافية لتطوير طاقتهم الإنتاجية مثل نيجيريا والجزائر".

رضوخ ألمانيا للشروط القطرية

ولتكتمل صورة الجغرافيا السياسية للطاقة وموقع قطر فيها، لا بد من الإشارة إلى تميز الاستجابة القطرية لتداعيات أزمة الطاقة الأوروبية وللطلب الأمريكي بمساعدة أوروبا، بقدر كبير من الحنكة. إذ ربطت تزويد الدول الأوروبية بالغاز بالموافقة على آلية الاتفاقيات طويلة الأجل لا العقود العاجلة في السوق الفورية كما كانت تطالب ألمانيا وغالبية الدول الأوروبية. وكانت زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس لقطر والسعودية والإمارات في سبتمبر/أيلول الماضي "استجداءً" للغاز، خير دليل على نجاح سياسة الطاقة القطرية وفشل سياسة الطاقة الألمانية. وليأت الدليل على ذلك في رضوخ ألمانيا للشروط القطرية، ما سمح بتوقيع صفقة ضخمة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لتزويد ألمانيا بنحو مليونَيْ طن من الغاز المسال سنوياً، ولكن بموجب اتفاقية طويلة الأجل مدتها 15 عاماً "على الأقل".

عصر قطر

تثبت الأيام أن رهان دولة قطر على ما يبدو كان صائباً، ففي الوقت الذي تسعى فيه دول العالم لتطوير الطاقات النظيفة وتقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري، فإن الطلب على الغاز الطبيعي سيستمر في النمو، باعتباره الأقل تلويثاً مقارنة بالفحم والنفط، كما يمكن استخدامه لإنتاج الهيدروجين الأزرق.

وتقدّر وكالة الطاقة الدولية أن الغاز سيبقى مكوناً رئيسياً في مزيج الطاقة العالمي حتى مع الوصول إلى صافي الصفر في الانبعاثات الكربونية في العام 2050.

وقد تحولت قطر بفضل الاحتياطيات الهائلة والتكاليف المنخفضة والاستثمارات المكثفة إلى المورد العالمي الرئيسي في الغاز، كما السعودية في النفط، ويقول خبير الطاقة الدولي بن كاهيل: "إنه عصر قطر، فكل العالم بحاجة إليها. حتى أمريكا المصدّرة، فهي تحتاج إلى قطر لتوفير الإمدادات لحلفائها في أوروبا". وهو ما تجلّى في استعانة الرئيس بايدن بأمير قطر خلال اجتماعه الشهير معه عقب اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية لتوفير إمدادات عاجلة لأوروبا.

وهذه الحقيقة رسّخت موقع قطر في الجغرافيا السياسية للطاقة، كما رسّخت موقعها الجيوسياسي في المنطقة. فهي ترتبط بعلاقات ممتازة مع أمريكا وتحتضن إحدى أهم القواعد العسكرية الأمريكية، كما ترتبط بعلاقات طيبة مع إيران، وعلاقات جيدة جداً مع تركيا وروسيا والصين. ولا شك أن الاتفاقية مع الصين تسهم في تأمين قدر كبير من المنعة السياسية بمواجهة أي ضغوط مستقبلية مع إيران التي تشترك معها في حقل الشمال وهو أكبر حقول الغاز في العالم.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي