تحديات عديدة تواجه الإعلام العربي  (AA)
تابعنا

فالإعلام العربي الرسمي هو إعلام كرّس عبر عقود من الزمن انسلاخه التامّ عن واقع الشعوب العربية، وجسّد ثقافة اللا تواصل بين الشعوب والحكام، وهذا ما أدّى بالمواطن العربي إلى التوجه نحو إعلام الآخَر، الذي صُمّم وأُنتج أصلاً للآخر وليس للعربي.

هل المجتمعات العربية محمية إعلامياً؟ وهل يوجَد وعي بأهمية الموضوع وخطورته من قبل المسؤولين والمشرفين على الإعلام؟ ماذا عن موقف المجتمع المدني والجمعيات المختلفة من هذه الإشكالية وانعكاساتها على الأمن العربي بصفة عامة؟ ماذا عن موقف المؤسسات الإعلامية العربية أم إن معظمها عبارة عن صناديق بريد توزّع ما ينتجه الآخر حسب قيمه ومعاييره وآيديولوجيته وفكره.

وبذلك فهي تروّج قيماً إعلامية لا علاقة لها بالمجتمعات العربية ولا صلة لها بالشارع العربي ولا بقضاياه المصيرية وهمومه اليومية. فكما نتكلم عن الأمن الغذائي والأمن العسكري والأمن الاقتصادي والأمن الإستراتيجي يجب علينا الكلام عن قضية الأمن الإعلامي، نظراً إلى أهمية الصورة وحرب الكلمات والحروب النفسية والحملات الدعائية في عصر لا يُرحَم وفي زمن أصبحت فيه المعلومة رأسمال الأمم والشعوب وأصبح فيه الرأي العامّ هو المحرك الأساسي للسياسة والاقتصاد والدبلوماسية.

فلا حرب بلا إعلام فعال، ولا تنمية مستدامة بلا إعلام قوي، ولا ديمقراطية بلا إعلام حر وديمقراطي وشفاف، ولا مجتمع مدنياً فعالاً وقوياً ونشطاً بلا إعلام يعكس قيم ومبادئ وعادات وتقاليد المجتمع. ولا يمكن تحقيق كل ما تقدم بلا أمن إعلامي. الأمن الإعلامي أكثر استراتيجية وأكثر أهمية من أي أمن آخر لأن أمن العقول وأمن الأفكار وأمن القيم هي المقومات الأساسية لمجتمع له هُوية وله شخصية وله ثوابت تجمع الأمة بمختلف أطيافها ومكوّناتها.

تشكّل التبعية الإعلامية والتقليد وفقدان الهوية في النظام الإعلامي العربي خطراً على الأمن الإعلامي وتهدّد بذلك كيان الأمة برمتها.

وللأمن الإعلامي مقوّمات وأسس ومبادئ ومستلزمات وشروط، ودونها فالكلام عن الأمن الإعلامي يُعتبر ضرباً من الخيال. التبعية الإعلامية العربية بلغت درجة من الخطورة منذ زمن بعيد، وزادت هذه الخطورة حِدّةً مع العولمة والبثّ الفضائي المباشر وشبكة الإنترنت وثورة الاتصال. فكلما زادت التكنولوجيا تطوُّراً وانتشاراً، في ظل عولمة لا ترحم الضعيف والفقير ولا ترحم من لا ينتج ويساهم في صناعة الفكر والمعرفة والصورة، زادت أنماط وأشكال التبعية والتقليد والذوبان في الآخر.

والنتيجة الحتمية في النهاية هي انعدام الأمن الإعلامي الذي لا يمكن تحقيقه في غياب استراتيجية إعلامية واضحة، وفي غياب إنتاج مخطط ومبرمج ومدروس، وفي غياب ميزانيات معتبرة، وفي غياب إنتاج رسالة إعلامية تنبع من رحم المجتمع ومشكلاته وشجونه. فكلما زاد انتشار تكنولوجيا الاتصال عالمياً زاد احتكار صناعة الإعلام والمعلومات والمنتجات الثقافية والترفيهية، وهذا يعني عولمة الإعلام وعولمة الثقافة وزيادة التبعية وانخفاض درجة الأمن الإعلامي.

وهكذا أصبح الإعلام الغربي هو الذي يحدّد أجندة المشاهد والمستمع والقارئ العربي، وهذا يعني أن إعلام الآخر هو الذي يشكّل في حقيقة الأمر الرأي العامّ العربي إذا سلّمنا بمبدأ أن الإعلام ليس بريئاً وأن أي إعلام في العالم له سياسته وخطه الافتتاحي وإطاره المرجعي وقيمه وآيديولوجيته وأجندته. وانطلاقاً من هذا الانسلاخ الخطير فإننا لا نستطيع الحديث عن أمن إعلامي، ولا نستطيع الكلام عن إعلام وطني أو قومي أو محلي يتفاعل مع هموم وقضايا الشارع العربي.

فالتبعية الإعلامية والتقليد وفقدان الهوية في النظام الإعلامي العربي تشكّل خطراً على الأمن الإعلامي وتهدّد بذلك كيان الأمة برمتها. من جهة أخرى نلاحظ أن الانفتاح الإعلامي الذي شهده العالم العربي في الربع الأخير من القرن الماضي لم يكن في خدمة الأمن الإعلامي العربي ولا المواطن العربي. فالانفتاح، خصوصاً في مجال الإعلام الفضائي، جاء عشوائياً وبلا تخطيط، وجاء من أجل الربح السريع والاستهلاك السلبي، مما زاد تعميق هوة التبعية والتقليد والذوبان في الآخر. فالإعلام هو صناعة الفكر والقيم وهو التاريخ اليومي للدول والمجتمعات والشعوب، وهو كذلك ذاكرة المجتمع، وإذا تُرك لرحمة التجار والسماسرة فإن عواقب ذلك ستكون وخيمة على الأمة.

وهذا في حقيقة الأمر ما يشكّل خطراً كبيراً على الأمن الإعلامي العربي. الأمن الإعلامي العربي بحاجة إلى إعلام حرّ ومسؤول لا ينحاز للسلطة ولا للمال، وإنما لخدمة الحقيقة وقضايا الجماهير. سطوة السلطة العربية على الإعلام ضربت مصداقية الإعلام العربي في الصميم ودفعت بالشعوب العربية إلى التوجه إلى مصادر أخرى غير ما هو متوافر في الداخل، الأمر الذي عزّز التبعية وكرّس الانسلاخ وانفصام الشخصية. فالهرب من المحلي للارتماء في أحضان الأجنبي لإشباع الحاجات الإعلامية والثقافية عند المواطن العربي يضرب في الصميم الأمن الإعلامي.

فالإشكال هنا مطروح على مستويين: المستوى الأول يتمثل في الفجوة القاتلة بين الإعلام المحلي والمواطن، أما المستوى الثاني فهو اعتماد الجمهور العربي على الإعلام الأجنبي، وهذا يعني أن هذا الأخير هو الذي يضع الأجندة للمواطن العربي، وهو الذي يحدّد له ما يقرأ وما يشاهد وما يسمع. فالتبعية الاقتصادية وانعدام الديمقراطية وغياب المجتمع المدني وتهميش المواطن العربي وعدم مشاركته في العمل السياسي كلها عوامل أدّت بالإعلام العربي إلى أن يكون مجرد انعكاس لهذه التناقضات من جهة، ومكرس للتبعية من جهة أخرى.

وما نلاحظه في الكثير من الأحيان في القضايا الدولية الحساسة، وفي القضايا التي تكون فيها الدول العربية طرفاً مهمّاً، هو إعلام عربي تائه، بلا هوية وبلا شخصية وبلا حتى موقف واضح. نلاحظ إعلاماً يكرر ويجترّ ما تتداوله وكالات الأنباء العالمية أو ما تتناوله كُبرَيَات المؤسسات الإعلامية العالمية. ففضائح غوانتانامو وفضائح أبو غريب وتمثيلية "جيسيكا لينش»"والأكاذيب المتكررة للبنتاغون والبيت الأبيض لم يتناولها الإعلام العربي إلا بعدما فتح ملفاتِها الإعلام الغربي.

أما قضايا الإهانة والحملات الدعائية المتكررة ضد المسلمين والعرب فهي لا تُواجَه بحملات إعلامية مخطَّطة ومدروسة بطريقة علمية ومنهجية، لكن ما نلاحظه هو مجرد فرقعات هنا وهناك سريعاً ما تزول وبلا أثر يُذكر.

كم هي كثيرة القضايا المهمة التي يمر عليها الإعلام العربي مرور الكرام دون استغلالها وتوظيفها بطريقة منهجية وعلمية مدروسة. وفي غالب الأحيان لا يعرف كيف يوظفها ويستعملها لخدمة القضايا العربية! وكم هي كثيرة المواضيع التافهة التي تنال مساحات كبيرة وفترات زمنية طويلة في وسائل الإعلام العربية! وكم هي كثيرة البرامج والمسلسلات والأفلام الهابطة التي تسمّم وتحنّط العقل العربي والفكر العربي أكثر مما تضيف له قيمة تُذكَر.

النخب السياسية في العالم العربي مُطالَبة بـ«دَمَقْرَطة» النظام الإعلامي العربي والاستثمار في الصناعات الإعلامية والثقافية من أجل نشر قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومن أجل حماية الفضاء الإعلامي العربي من التلوث واللا أمن الذي يعاني منه.

فالأمن الإعلامي يتحقق من خلال إعلام ملتزم ومسؤول يؤمن بكرامة الإنسان وبحُرّيّته، ويؤمن بالبحث عن الحقيقة ومحاربة الفساد والظلم والجهل في المجتمع، إعلام يتفاعل مع الشارع ومع هموم ومشكلات الفئات العريضة من المجتمع. المواطن العربي بحاجة إلى إعلام هادف وملتزم ومسؤول ينبع من رحم قيم وتقاليد وعادات وهوية المجتمع. بإعلام بهذه المواصفات والخصائص يستطيع العرب الكلام عن الأمن الإعلامي وعن إعلام عربي الهُويَّة وعربي القيم وعربي الرسالة وعربي الهدف.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً