تابعنا
"المستخدم كسلعة" هي الفلسفة الجديدة التي تحكم السوق. وفي الوقت الذي تُعتبر فيه بيانات المستخدمين هي الموادّ الخام للربح في هذا العصر، فإن العمل على إيجاد الطرق الخلاقة لإبقاء المستخدمين نشطين على هذه التطبيقات يُعتبر الشغل الشاغل لمهندسي هذه الشركات.

أولئك الذين شاهدوا الفيلم الوثائقي ذائع الصيت على شبكة نتفليكس Social Dilemma حول عمل شركات تكنولوجيا المعلومات، ومدى تغلغلهم في حياتنا، ربما انتبهوا إلى تكرار عبارة ذات مغزى كبير يردّدها خبراء السوسيولوجيا الرقمية والمصممون التكنولوجيون، هي أن المستخدمين اليوم، ومن خلال انتشار ظاهرة الخدمات المجانية كتطبيقات المحادثة من قبيل واتساب وسيغنال وتليغرام أو حتى النقل كـ Uber وغيرها، باتوا هم السلعة، أو المُنتَج الذي يجري تسويقه.

يحمل هذا الكلام معنى في غاية الأهمية يصبّ في شرح جوهر النظام الاقتصادي الذي بات يستحوذ على عصب التعاملات المالية العالمية. فالمستخدمون من خلال استخدامهم الواسع لتطبيقات شركات تكنولوجيا المعلومات المجانية، إنما يقومون بمشاركة بياناتهم مجاناً أيضاً عن طيب خاطر. هذه البيانات الضخمة Big Data، يتم تخزينها وإعادة استثمارها من خلال إما بيعها لطرف ثالث، أو من خلال الإعلانات الموجهة للمنتجات التجارية والسياسية على حد سواء، وكل ذلك يتم من خلال منظومة من الخوارزميات معقدة التركيب وغاية في السرية، ذاتية التطوير والنموّ بحيث إن مصمميها الأوائل لا يملكون السيطرة عليها في لحظة ما.

"المستخدم كسلعة" هي الفلسفة الجديدة التي تحكم السوق. وفي الوقت الذي تُعتبر فيه بيانات المستخدمين هي الموادّ الخام للربح في هذا العصر، فإن العمل على إيجاد الطرق الخلاقة لإبقاء المستخدمين نشطين على هذه التطبيقات يُعتبر الشغل الشاغل لمهندسي هذه الشركات. فكلما بقي المستخدمون أكثر مشدودين إلى هذه التطبيقات، كان المزيد من البيانات وبالتالي من الربح.

البيانات الحتمية هي الوحيدة التي تخضع لها شركات تكنولوجيا المعلومات الآن. فمن أجل أن تحظى بأرباح تفوق الخيال، فإنها تحتاج إلى توقعات كبيرة لكي يغدو أي إعلان ناجح من خلال انتشاره الواسع. وهذه التوقعات الكبيرة تبدأ من فكرة واحدة، هي تعقب البيانات حتى النهاية. إنهم لا يبيعون شيئاً إلا "اليقين"، كما تقول شوشانا زوبوف، مؤلفة كتاب "عصر رأسمالية المراقبة".

يتم هندسة اليقين هنا من خلال عملية تلاعب في تصورات الناس واعتقاداتهم. إنها معادلة مترابطة، تبدأ من خلال نوع من الهندسة السيكولوجية لجذب المستخدمين للبقاء أونلاين أطول فترة ممكنة، من ثم تعقُّب وحصد بيانتهم بشكل تفصيلي، وتحليلها عبر منظومة من الخوارزميات ومن ثم بيعها أو استثمارها في الإعلانات التجارية، وبالأخير يتحقق الربح الضخم.

والمراقبة المُرَسمَلة هنا ليست بغرض التجسس وحده وإنما بهدف حصد البيانات أيضاً، الأمر الذي سوف يُستخدم لاحقاً للتأثير في الرغبات والتصورات التي من شأنها أن تؤثّر حتماً في سلوكيات المستخدمين. تستخدم شركات تكنولوجيا المعلومات مثل فيسبوك وغوغل اختبار الانقسام العملي Scientific A-B Testing، وذلك في التغييرات الصغيرة للميزات. وهي تجارب يجرونها، كما يقول ساندي براكليس مدير المنتجات في فيسبوك سابقاً، بشكل مستمرّ على المستخدمين من خلال استثمار البيانات التي يجنونها منهم. مع مرور الوقت وبإجراء تلك التجارب المستمرة فإنهم يطوّرون أفضل طريقة ليجعلوا المستخدمين يفعلون ما يريدون. وما يريدونه هو مشاهدة المزيد من الإعلانات التي يتوقف عليها جنيهم للأموال.

شوشانا زوبوف مؤلفة كتاب عصر رأسمالية المراقبة  (Others)

الفكرة التي طوّرتها زوبوف حول رأسمالية المراقبة سهلة وبسيطة، إن جرى فهمها ابتداءً من خلا إدراك كيفية عمل عملاق محرّكات البحث Google. وتجادل زوبوف بأن Google، مثلها مثل هنري فورد في بداية القرن العشرين، قدمت نوعاً جديداً أو شكلاً جديداً من أشكال الرأسمالية سمّتها "رأسمالية المراقبة. وبعد أن كانت رأسمالية فورد تعتمد على وفرة الإنتاج، تعتمد رأسمالية المراقبة على وفرة جمع البيانات. وإذا كانت خط الانتاج في رأسمالية الوفرة ينتهي بالمنتج المُصنّع، فإن خط الانتاج في رأسمالية المراقبة ينتهي بالإنسان ذاته.

فالاستخدام البشري لخدمات مثل Google وفيسبوك وما شابههما لا تشكّل المنتج بحد ذاته، كما أنهم ليسوا عملاء في ذات الوقت. إن هذا الاستخدام البشري للتطبيقات الرقمية يتحول إلى مجرد "موادّ خام" تستثمر من أجل تعظيم رأس المال. إنها استثمار للسلوك البشري الذي يجري العمل على هندسته وفق رغبات هذه الشركات من خلال التلاعب بالتراكيب السوسيولوجية والسيكولوجية للمستخدمين، وهو ما يجعلهم عرضة لاستغلال أصحاب الأجندات السياسية والتجارية.

جارون لانيير، الكاتب الأمريكي المتخصص بتكنولوجيا الحوسبة، يؤكّد أن التأثير السلوكي لهذه الشركات على المستخدمين يكون بسيطاً وغير محسوس. إن هذا التغيير التدريجي غير المحسوس والبسيط هو الشيء الوحيد المعروض على منصات هذه الشركات، ولا شيء آخر سواه، معروض للبيع. وذلك هو الشيء الوحيد الذي يجنون منه المال. إن تغيير ما يفعل المستخدمون، وطريقة تفكيرهم، وطبيعتهم، بشكل غير محسوس وتدريجي يحولهم إلى أشخاص لا يفكرون، مسلوبي الإرادة، لا يريدون إلا مشاهدة المزيد من الإعلانات.

الأب الروحي للحياة الافتراضية جارون لانيير (Others)

وفي سياق متصل تقول زوبوف إن فيسبوك أجرى ما أطلق عليه اسم "تجارب العدوى واسعة النطاق" (Massive-scale Contagion Experiments)، وهي عبارة عن آلية استخدام للإشارات المبطنة في صفحات فيسبوك لجعل المزيد من الناس يصوتون في الانتخابات النصفية عام 2018. واكتشفوا أنهم قادرون على فعل ذلك. واستنتجوا شيئاً واحداً هو أنهم باتوا يعرفون أن بإمكانهم التأثير في سلوك وعواطف العالم الحقيقي. ولا شك أن هذا فتح لهم باباً واسعاً لجذب مئات الملايين من الإعلانات السياسية الموجهة. يكفي النظر إلى حملات مرشحي الرئاسة الأمريكية لمعرفة حجم الأموال التي تنفق على الإعلانات السياسية الموجهة. فحملة الرئيس السابق ترمب أنفقت 48.7 مليون دولار على إعلاناتها على منصة فيسبوك وحدها، في حين خصصت حملة الرئيس بايدن 45.4 مليون دولار لإعلاناتها على فيسبوك.

تضر رأسمالية المراقبة بالسوق، فهي تفتح الباب واسعاً لاتساع عمليات الاحتكار، وتخفيض عجلة الإنتاج، وذلك من خلال تعظيم قطاع الخدمات على القطاعات الإنتاجية الأخرى كالصناعية بشكل أساسي. ولكن الأمر يتعدى الجوانب الاقتصادية البحتة. إذ إن سياسة "استخلاص" البيانات، والتلاعب في الأنماط السلوكية والنفسية للمستخدمين، قد أضرّت بالديمقراطية أيضاً، وهدّدَت واحداً من أهم أركانها، وهو الإرادة الحرة.

سمح التلاعب من خلال استثمار بيانات المستخدمين لمهندسي الإعلانات السياسة بأن يمارسوا أنواعاً شتى من التحايل، والتضليل، ونشر الأخبار الكاذبة. وقد أثبت العديد من الأمثلة نجاح هذه الحملات في تغيير قناعات المستخدمين والتأثير في أحداث مصيرية مثل بريكست.

مثال على ذلك ما ذكرته كارول كادوالادر عن بلدة Ebbw Vale في جنوب ويلز بالمملكة المتحدة. اشتهرت هذه البلدة الهادئة الوديعة طيلة عشرات السنوات على أنها معقل حزب العمال اليساري، ولكنها دعمت، وبشكل شكّل مفاجأة كبيرة لجميع المراقبين، التيار اليميني الشعبوي في أثناء التصويت لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.

استطاعت حملات التضليل الممنهجة أن تؤثر على أصوات الناخبين بشكل واضح في بلدة Ebbw Vale (Others)

أعرب الناس هناك عن سخطهم تجاه الاتحاد الأوروبي، على الرغم من وجود العديد من المشاريع التي تصل إلى عدة ملايين والتي يمولها الاتحاد الأوروبي، وتجاه المهاجرين واللاجئين على الرغم من أن هذه البلدة بالذات تحتوي على أقل نسبة منهم. ولكن عندما ننظر إلى كيفية اتخاذ Ebbw Vale لأفكارهم، وتصوراتهم السياسية، يمكننا فهم هذه التناقضات. كان Ebbw Vale هدفاً لإعلانات التضليل على Facebook التي مولها الشعبويون بملايين الأموال النقدية غير القانونية. وكان محتوى كل الرسائل أن بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي سوف يجعل بلدتهم مرتعاً للاجئين الغرباء الذين سوف يزاحمونهم على أعمالهم وقوت يومهم. ومع كثرة هذه الإعلانات الموجهة، غير الخاضعة للرقابة، استطاع الشعبويون الفوز بأصوات هذه البلدة بشكل كامل.

تضر رأسمالية المراقبة بالإنسان من خلال تحويله من طرف في العملية الاقتصادية، إلى مجرد وسيط، أو ناقل لرأس المال. كما تضرّ به عندما تجعله مسلوب الإرادة عبر التلاعب بتصوراته عن نفسه وعن البيئة التي تحيط به. ومن هنا فإن العديد من الخبراء والمتخصصين في مجال الرقمنة، مثل زوبوف، يذهبون إلى ضرورة تحريم هذه السوق. وهم يرون أن هذا الطرح ليس راديكالياً ألبتة، فثمة أسواق تم حظرها سابقاً كسوق الاتجار بأعضاء البشر، أو سوق تجارة العبيد، لأن سوق رأسمالية المراقبة تحمل "نتائج مدمرة لا مفر منها" حسب زوبوف.

TRT عربي