تنامي الاحتجاجات الشعبية حول العالم مؤخرا. (Reuters)
تابعنا

فإذا كان القرن العشرين هو عصر القنبلة النووية، فإن القرن الواحد والعشرين هو قرن الاحتجاجات الشعبية.

فمنذ الربيع العربي الذي انطلقت أحداثه في تونس نهاية عام 2010 وامتد إلى بعض الدولة العربية، مصر وليبيا والبحرين وسوريا واليمن وغيرها، وقبل ذلك في إيران إبان الثورة الخضراء عام 2009، ونحن نشهد جولات متلاحقة ومتتالية من الاحتجاجات الشعبية الموجهة ضد فساد الطبقة السياسية واستبدادها الذي جعل التنمية الاقتصادية متأخرة جداً وهو الأمر الذي زج بمئات الملايين من البشر إلى الفقر والاستبعاد. ولم يقتصر ذلك على دول المركز أو حتى دول العالم الثالث، بل امتد من أقصى المعمورة إلى أقصاها، من هونغ كونغ الذي انتفض أبناؤها ضد إجراءات الصين القمعية، إلى تشيلي التي سقم أهلها من فساد الطبقة الحاكمة الذي وضع اقتصاد بلادهم في حالة مزرية، ناهيك بانتفاضة السترات الصفراء في فرنسا، إلخ.

إن ما بدا كأنه احتجاجات إقليمية محصورة ضمن إطار إقليم الشرق الأوسط بناء على خصوصيته سواء الاقتصادية أو السياسية، تحول سريعاً ليصبح ظاهرة عالمية تغزو عشرات إن لم يكن مئات المدن حول العالم، وذلك مع انطلاق شرارة حركة "احتلوا وول ستريت" الذي حملت في أحشائها تطلعات الاشتراكية الديمقراطية وحلم المساواة والعدالة للجميع ضد ديمقراطية الشركات الكبرى والرأسمالية الجامحة التي لا ترى لها هدفاً إلا تعظيم الربح ورأس المال.

كانت حركات العدالة الاجتماعية والحركات اليسارية والأناركية ضاقت ذرعاً بالوعود غير المحققة التي جاء بها الرئيس أوباما. لقد مثل وصول أول رئيس من ذوي البشرة السوداء إلى البيت الأبيض أملاً كبيراً لهذه الحركات في التغيير. لقد أعطاهم هذه الفوز شعوراً بأن التغيير عبر الانخراط في المؤسسات القائمة لا يزال متاحاً، وهو ما اكتشفوا أنه كان مجرد وهم سرعان ما استيقظوا منه عندما رأوا الرئيس أوباما غير قادر على مجاراة المؤسسات النيوليبرالية التي ما فتئت تفتك بأدنى مقومات العدالة الاجتماعية التي بنيت عليها الدولة الاشتراكية الديمقراطية ما بعد الحرب العالمية الثانية.

تم قمع حركة "احتلوا وول ستريت" بقوة من قبل القوات الأمنية. كانت المشاهد صادمة. فلم يكن أحد يتوقع أن تكون ردود الفعل من سلطات ديمقراطية كحكومة الولايات المتحدة بهذه القسوة ضد مدنيين عزل تجمهروا في بعض الساعات العمومية. فهذا حق كفله لهم الدستور. ولكن وبسبب طبيعة هذه الحركة واتساعها كان هذا الرد القاسي مبرراً من وجهة نظر براغماتية على الرغم من أنه أخلاقياً لا مبرر له مطلقاً.

بكل تأكيد لم يكن الفشل الذي منيت بها هذه الاحتجاجات موضوعياً وحسب كما جرى على يد قوات الأمن سواء في الولايات المتحدة أو في دول العالم الثالث كالدول العربية حيث استطاعت قوات الأمن والجيش وضع حد للكثير من هذه الثورات المدنية، بل كان يوجد سبب ذاتي أيضاً عبر عنه الفيلسوف الفرنسي إدغار موران بنقص "الوعي بكيفية تغيير المسار".

فشباب التحرير في مصر لم يكن لديهم رؤية واضحة لما بعد إسقاط حكم حسني مبارك وهو ما أوقعهم بين مطرقة جماعة الإخوان المسلمين وسندان المؤسسة العسكرية. بكلمة أخرى، لم يكن عند هذه الحركات التي أخذت شكلاً أفقياً وليس رأسياً، مثلما كان معمولاً به إبان حركات العمال في بداية القرن العشرين، خطة الـ"ماذا بعد؟". فهذه الحركات التي افتقرت إلى القيادة الهرمية متأثرة بعصر الشبكات لم تعرف كيف تتعامل مع الدولة العميقة التي ما لبثت أن قادت ثورات مضادة أجهضت آمال حركات الاحتجاج المدنية.

كما عانت هذه الاحتجاجات "النفس القصير" فما تلبث جذوة الاحتجاج حتى تأفل بُعيد تحقيق أحد الأهداف المرجوة الأولية، وهو ما أدركته الحكومات وأخذت تتعامل معه وفق سياسة ترويض الحصان الجامح. رأينا هذا الأمر بشكل لافت في العراق سواء إبان الحراك السني الذي استمر لأكثر من عام أو ثورة تشرين التي انطلقت عام 2019، وكذلك في الجزائر إبان انطلاق ثورة تشرين فيها التي رفضت استمرار الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في الحكم، فضلاً عن حراك تشرين أيضاً في لبنان الذي انطلق بشكل متزامن مع تحركات الجزائر.

نقص الوعي بكيفية تغيير المسار كما عبر عنها موران، وهو ما نجد لها صدى في الاختلاف المستمر بين أتباع فكرة الانخراط بالعمل السياسي ضمن المؤسسات القائمة، وأتباع فكرة "الثورة الدائمة" كما عبر تروتسكي، وتحقيق الديمقراطية التشاركية، لم تكن المعضلة الوحيدة التي تعانيها حركات الاحتجاج العالمية اليوم. نعم يوجد قمع من القوات الأمنية أو الثورات المضادة التي تشنها الدولة العميقة، ولكن هذا يبقى مفهوماً ضمن آليات الدفع والدفع المضاد. ولكن المعضلة الأخرى والتي تعد أكثر إلحاحاً هي التدخلات الخارجية التي من شأنها أن تحرف مسار الثورات أو الاحتجاجات عن مسارها وتأخذها نحو الأفول أو نحو التحول إلى نوع من أنواع الحروب الأهلية.

حدث ذلك بشكل جلي في سوريا إثر التدخل الروسي عام 2015 ومن قبله التدخل الإيراني ممثلاً بأذرعها الرسمية وغير الرسمية مثل فيلق القدس أو الحرس الثوري، وهو ما ظهر لاحقاً أيضاً في اليمن عبر التدخل الإيراني مرة أخرى والتدخل السعودي الذي جاء على إثر استحواذ جماعة الحوثي على الحكم بانقلابها على شركاء الأمس بالثورة. تكرر الأمر ذاته عندما تدخلت قوات درع الجزيرة إلى البحرين، وبعيداً عن القراءة الطائفية للاحتجاجات سواء في سوريا أم في البحرين فإن التدخل الخارجي كان له كبير الأثر في حرف هذه الاحتجاجات عن مسارها أو وضع حد لها.

ما لم تقم حركات الاحتجاج العالمية بصياغة ميثاق عالمي لكيفية تحقيق هذه التطلعات، وعرفت كيف تحقق المسار، فإن هذه الاحتجاجات سوف تبقى من دون تحقيق تطلعاتها نحو مجتمعات تتمتع بتوزيع عادل للثروة، وتتمتع بهامش أكثر من الديمقراطية والمشاركة السياسية على أسس صحيحة.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي