تابعنا
نخب عربية كثيرة تحاول إعادة كتابة التاريخ بشكل انتقائي يتسق مع العلاقات القائمة اليوم مع بعض البلدان الغربية، مع تجاهل واضح للتركة الثقيلة التي خلفتها في أوطاننا.

التحولات الكبرى التي عاشتها منطقتنا العربية في العقود الأخيرة سياسياً واجتماعياً وحضارياً واقتصادياً أثرت بشكل لافت على العقل العربي، وزلزلت الكثير من الثوابت المبدئية أو تلك التي كنا نعتقد على الأقل أنها كذلك.

تجلى ذلك بمنتهى الوضوح في تمثلنا للآخر الغربي على وجه التحديد، وفي المراجعات العميقة والصادمة أحياناً التي قامت بها فئة كبيرة من نخبنا السياسية والثقافية بشأن تاريخنا مع الغرب، وإنكار أجزاء منه والتعامل بانتقائية معه أو بشأن حاضرنا أيضاً وطرائق تعاطينا مع قضايانا الحارقة.

ما يعنينا هنا بالتحديد، محاولة نخب عربية كثيرة إعادة كتابة التاريخ بشكل انتقائي يتسق مع العلاقات القائمة اليوم مع بعض البلدان الغربية، مع تجاهل واضح للتركة الثقيلة التي خلفتها في أوطاننا.

ولأن الاستعمار يشكل ذروة ملامح التوترات السياسية والعلائقية بين الشعوب والأمم، فقد ظل بمثابة الوشم الذي لا يمحى من الذاكرة تتوارثه الأجيال جيلاً بعد آخر، ويوثقه المبدعون في ملاحمهم الروائية، والسينمائية، والدرامية، تماماً كما يجسده المؤرخون في كتبهم وهم يروون سير رموز المقاومة التي كتبوها بالدم.

كما تحفل الذاكرة الشعبية بالملاحم الشفوية عن رفاق السلاح الذين واجهوا القوات الاستعمارية الغاشمة وتعاطيها المتوحش معهم.

ومن بين الكتب التي وثقت ذلك كتاب "عرق البرنوس" الذي لا ندري إذا كان الرئيس التونسي أستاذ القانون الدستوري اطلع عليه، وهو مترجَم من قبل أحد زملائه الجامعيين في قسم التاريخ الدكتور لزهر الماجري عن كتاب بول فينياي دوكتون والذي يعد وثيقة مهمة عن جرائم المستعمر الفرنسي، خصوصاً في ظل تصريحاته الأخيرة التي أنكر فيها الصبغة الاستعمارية للاحتلال الفرنسي لتونس، مهوناً من وطأة وحشيتها، واصفاً إياها بالحماية في حديثه لقناة فرانس 24 الناطقة بالفرنسية قائلاً بالحرف الواحد: "تونس كانت تحت نظام الحماية وليس احتلالاً مباشراً مثلما حدث بالجزائر".

ولم يشفع للرئيس قيس سعيد تداركه المحتشم وهو يقول: "ورغم ذلك فقد تم ارتكاب جرائم ضد التونسيين ودفعوا ثمناً غالياً"، هو ثمن لا يرى الرئيس أنه يوجب اعتذار فرنسا عمَّا اقترفته ولا حتى مطالبتها بذلك. وهو لا يرى ضيراً في أن يصدح بوجهة نظره التي كانت صادمة ليس للتونسيين فحسب بل لقسم من النخب العربية الذين رأوا فيها عدم اتساق مع الصورة التي رسمت له سابقاً، وصلت إلى حد خيبة الأمل في شخصية راهن العديد على تفرّدها.

ولعل هذا ما جعل تصريحات الرئيس التونسي في باريس تثير سجالاً كبيراً، وتسيل الكثير من الحبر الذي لم ينقطع حتى اللحظة.

ولاشك أن التونسيين الذي عاشوا على امتداد 75 عاماً من الاستعمار الفرنسي لا زالوا يستحضرون فظائعه الموثقة في أرشيف تاريخ الحركة الوطنية، والحية في الذاكرة الجماعية التي تأبى النسيان.

وفي هذا الغرض يعد كتاب "عرق البرنوس" المترجم عن الفرنسية إدانة للاستعمار الفرنسي من قبل أحد الفرنسيين أنفسهم خير شهادة على العصر لموفد رسمي فرنسي يدين الاستعمار، ويوثق لوقائع وحشية تصل إلى مرتبة جرائم ضد الإنسانية، والتي لا يمكن قطعاً أن تسقط بالتقادم أو الإنكار. وهو أفضل ما يمكن الاستشهاد به في السياق.

ولن تجدي المراوغات اللغوية من قبل الرئيس سعيد بشأن وسم هذه المرحلة بالحماية في التغافل عن الإرث الاستعماري البغيض ومخلفاته التي لا زالت ارتداداتها الحادة قائمة حتى اليوم. فسياسة استنزاف الخيرات التونسية وبسط النفوذ على البلاد وسلبها سيادتها، وامتهان كرامة التونسيين وقمعهم وتجريدهم من حقوقهم وحرياتهم، ماذا يمكن أن نسميها إذا لم تكن استعماراً بغيضاً؟ وهل يمكن أن تسقط لفظة الحماية عن فرنسا صفتها كإحدى أعتى الإمبراطوريات الاستعمارية في التاريخ؟ وقد عانت عديد الشعوب الإفريقية من وحشيتها وبطشها.

ومن الثابت أن جرائم الاستعمار لا تسقط بالتقادم، وأن مقتضيات السياسة يمكن أن تسمح بهامش من المرونة والبراغماتية في التعامل مع مستعمر الأمس، لكنها قطعاً لا تبرئه ممَّا اقترفت يداه.

ومهما كان حجم المصلحة الآنية التي تقتضي تجسير الفجوة مع الآخر الغربي لا سيما المستعمر القديم فهي قطعاً لا تجعلنا نغفل عن المسائل المبدئية المتعلقة بتاريخنا، وبشهدائنا، وملاحمنا النضالية.

منيرة رزقي

ومهما كان حجم المصلحة الآنية التي تقتضي تجسير الفجوة مع الآخر الغربي لا سيما المستعمر القديم فهي قطعاً لا تجعلنا نغفل عن المسائل المبدئية المتعلقة بتاريخنا، وبشهدائنا، وملاحمنا النضالية، والمعارك الخالدة، وهي عصية على النسيان.

ولعل ما أثار الدهشة من قبل بعض المتابعين هو الآراء التي عرف بها سعيد قبل توليه منصب الرئاسة والمعادية للاستعمار، والمنبهرة بالشخصيات الوطنية المجاهدة على غرار محمد الدغباجي أحد رموز الكفاح المسلح التونسي الذي أعدمته فرنسا في ساحة عامة في مسقط رأسه بمدينة الحامة في الجنوب يوم 1 مارس/آذار 1924 على مرأى من أهله.

لكن الرئيس قيس سعيد اليوم ينكر الاستعمار ويعترف بالحماية، وهو يلغي بذلك مرحلة تاريخية دامية من تاريخ تونس المعاصر تماماً كما يتنكر لأقواله السابقة .

وهو في هذا يلتقي مع بعض غلاة الفرنكوفونية الذين يعتبرون أن فرنسا المتحضرة بسطت حمايتها على بعض الدول لتنقل إليها الحضارة والمدنية معتمدة على الفنون والآداب، حتى إن أحد مخرجي السينما قال إن فرنسا "احتلت" قلوب الشعوب بأغنية وكتاب على عكس إنجلترا التي اعتمدت البطش والعنف، وهو رأي يجانب الصواب قطعاً.

نقول هذا حتى إن بدا التيار المناهض للاستعمار محدوداً وما فتئ يتراجع، خاصة في أوساط النخب السياسية الباحثة عن التموقع ودعم النفوذ.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي