سفينة فرنسية تخوض معركة مع قراصنة (Others)
تابعنا

بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر، كانت القرصنة منتشرة في البحر الأبيض المتوسط. ومع ذلك شُوّهَت سمعة البحارة المسلمين وصُوّروا على أنهم خطر هائل على العالم الغربي في روايات المستشرقين. لماذا هذا؟ ولماذا صُوّروا على أنهم "كفار برابرة" وكائنات "شهوانية"؟ في المقابل، يُضفَى الطابع الرومانسي على القراصنة الغربيين ويُنظر إليهم على أنهم محتالون محبوبون.

يسلّط البروفيسور نبيل مطر، الخبير في تاريخ البحارة البربر، الضوء على الكيفية ترسم فيها الروايات السائدة صورة غير دقيقة مفادها أن هؤلاء البحارة يشكّلون تهديداً كبيراً لأوروبا والغرب (باعتبارهم قراصنة) وبالتالي يجب سحقهم.

قال مطر لـTRTWorld: "لم يكن البحارة يشكّلون خطراً في حد ذاتهم؛ كانوا قوى اقتصادية لدعم سوق العمل. لم يكن لدى سكان شمال إفريقيا في أي وقت من الأوقات القدرة على قصف بليموث بالطريقة التي قصف بها البريطانيون، على سبيل المثال، طرابلس.

يضيف مطر: "كان البحارة (القراصنة) جزءاً من اقتصاد تلك الفترة في البحر الأبيض المتوسط"، وقد كوفئوا على جهودهم نيابة عن حكامهم. لذلك كان تَصوُّر القراصنة على أنهم "أشرار" نسبيّاً، إذ كان من الواضح أن قراصنة إمبراطورية ما كانوا "أبطالاً أشدَّاء" في نظر إمبراطورية أخرى.

لم يكن التهديد المتصوَّر للبحارة البربر واقعياً وفقاً لمطر، الذي كتب أعمالاً أكاديمية واسعة النطاق تحاول وضع قراءة للتاريخ أكثر توازناً للبحارة (القراصنة) في تلك الفترة، ونقد الروايات المعادية للمسلمين بوضوح أيضاً.

بحلول عام 1830، كانت أساطيل أوروبا أقوى وأكثر تطوراً وتقدُّماً في التكنولوجيا العسكرية من شمال إفريقيا؛ كان تَدخُّلهم ذريعة للاستعمار لا القضاء على القرصنة.

جادل مطر بأن التهديد الرئيسي الذي شكّله البحارة البربر هو أنهم تَحدَّوا الرغبات الأوروبية في التفوق الرأسمالي. يمكن للمرء أن يقول إن البحارة المسلمين كانوا عقبة أمام الإمبريالية الغربية، على الرغم من أن مطر يعتقد أن البحارة البربر كانوا "يخوضون حرب الرجل الفقير" ولم يكونوا قادرين حقّاً على تحدِّي قوة القوى الأوروبية.

على الرغم من حالة "عدم التهديد هذه"، فعل الغرب كل ما في وسعه للانتقاص من صورة المسلمين وتشويهها، وزيادة الشهية لـ"الحرب المقدسة"، والبعض يقول إن هذا كله كان من أجل لتبرير الاستعمار والتوسع.

كانت الروايات أيضاً وسيلة لفرض التفوق الغربي، كما لاحظ إدوارد سعيد أن "القدرة على السرد، أو منع كل الروايات من التكون والظهور، مهمة جدّاً للثقافة والإمبريالية، وتشكّل أحد الروابط الرئيسية بينهما".

في الكتابات والدعاية الاستشراقية، وُصف المسلمون تاريخياً بـ"الكفار" و"البرابرة"، حتى كلمة "Barbary" في اليونانية واللاتينية تُترجَم على أنها كائن "غير حضاري". سكان شمال إفريقيا أنفسهم لم يطلقوا على المنطقة اسم "الساحل البربري". عملت الكتابات الغربية أيضاً على تبرير العبودية الأمريكية والأوروبية، بسبب الصورة التي رسموها عن "الهمجية" الإفريقية تجاه الأسرى الأوروبيين.

منذ ذلك الحين استمرت هذه الروايات المعادية للمسلمين في الثقافة الغربية والحسابات التاريخية وانتشرت على نطاق واسع. لا تلطّخ الكتابات التاريخية الغربية سمعة المسلمين فحسب، بل تلطّخ كل من كان يُنظَر إليه على أنه "الآخر"، بما في ذلك السكان الأصليون والأفارقة السود والأمريكيون الأصليون.

عطّل البحارة المسلمون لعدة قرون إلى حد ما الأهداف الاقتصادية الغربية، وربما تَمكَّنوا من تأخير هدف الإمبريالية الأوروبية، ولكن ليس وقفها. تَحقَّق هذا في النهاية من خلال الاستعمار الغربي من القرن التاسع عشر فصاعداً.

"بعد قرن بالضبط من نشر الطبعة الثانية من (خطة التجارة الإنجليزية) في عام 1830، غزت فرنسا الجزائر واحتلتها وحولتها إلى قمر يدور في فلك إمبراطوريتها التجارية والإمبريالية. حينها تحققت نبوءة ديفو عن الإمبراطورية. لقد بدأ غزو الشرق الأوسط"، كما قال مطر.

كان عديد من القراصنة مارقين وعملوا لمصلحتهم الخاصة، لكن بعضهم وجد مكانه لتلقِّي المكافآت والمكانة من خلال العمل لصالح الإمبراطوريات الكبرى في ذلك الوقت. كان السير فرانسيس دريك يبحر ويأخذ الغنائم والثروات للملكة إليزابيث الأولى، وبالتالي منحته لقب فارس، لكنه عند الإسبان كان قرصاناً خارجاً عن القانون.

يمكن اعتبار فرسان مالطا أيضاً مشاركين في القرصنة للبابوية. وفقاً للمؤرخ كريستوفر لويد، فإن الفرسان و"أنشطتهم في القرصنة تكاد تكون مساوية لتلك التي يمارسها (جماعات أخرى ينتمون إلى شمال إفريقيا)، على الرغم من أنهم يرتدون عباءات تحت ستار حملة صليبية ضدّ الكفار".

في العالم الإسلامي كان يُنظر إلى الأخوين بربروسا على أنهما بحَّاران يعملان لصالح الإمبراطورية العثمانية. عطّلا الشحن الإسباني والبرتغالي في غرب البحر الأبيض المتوسط وتمكّنا من درء توغلاتهم في الأراضي العثمانية. بربروس خير الدين باشا، المعروف أيضاً باسم "بربروسا"، كان أميرال الأسطول العثماني، الذي وصفته ناشيونال جيوغرافيك بـ"أكثر بحار مرهوب الجانب في البحر الأبيض المتوسط". في العالم المسيحي، كان الأخوان بربروسا بمثابة كابوس.

كان في العالم المسيحي اشمئزاز واسع النطاق من القراصنة الأوروبيين الذين اعتنقوا الإسلام وعملوا لصالح الإمبراطوريات الإسلامية، الذين أطلق عليهم في ما بعد "المرتدّون". اتُّهم هؤلاء المرتدون بمشاركة المهارات الفنية والمعرفة مع العدوّ. صُوّروا على أنهم عدد كبير جدّاً ومصدر للخجل لتركهم إيمانهم المسيحي وتحوُّلهم إلى "التركية". عُزّزَت هذه التصورات في المسرحيات والأدب وكذلك في الدعاية الأخرى.

ويقال إن جون وارد، أحد هؤلاء المنشقين، هو مصدر الإلهام وراء شخصية جوني ديب "جاك سبارو" في فيلم قراصنة الكاريبي Pirates of the Caribbean.

بدأ قراصنة مثل جون وارد العمل لصالح إمبراطوريات إسلامية باختياره، وكان اسمه المسلم يوسف ريس، كما اعتنق الأخوان بربروسا الإسلام. هذا الانشقاق عن المسيحية هو أكثر ما كان يقلق العالم المسيحي بما يفوق قلقهم من التهديد الفعلي لأعمالهم البحرية.

تتحمل الروايات التي كتبها ونشرها الأسرى الأوروبيون المحرَّرون جانباً من المسؤولة أيضاً عن التصورات السلبية للبحارة البربر في التاريخ. هذه الروايات عزّزَت الصورة التي تَشكَّلت بالفعل للعالم الإسلامي وشعبه على أنهم "برابرة، وغير مهذَّبين، ومنحلُّون".

يقول مطر إن "الأسرى المُفرَج عنهم كتبوا ونشروا قصصهم لأنهم أرادوا كسب المال، وبعض هذه الكتابات كان من نسج الخيال". يمكن القول إنهم كانوا يكتبون ليتوافقوا مع نموذج مقبول من شأنه أن يروق الجماهير ويبيع الكتب.

المؤرّخ بول بايبلر أعاد تأكيد هذا الرأي قائلاً: "هذه الروايات إذاً يجب أن تُقرأ بوعي حول انغماس الكُتَّاب في الثقافة الإمبريالية معبّرين عن موقف المهيمِن".

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي
الأكثر تداولاً