ما زالت حوادث إحراق المصحف في الغرب وتحديداً في السويد والدنمارك تشهد تفاعلاً بقوة، مُحدِثةً كثيراً من هبّات الاستياء في عديد من عواصم العالم سواء على شكل مظاهرات شعبية أو إدانات رسمية.
وقد قيل كثير في أسبابها، وخلفيات الأشخاص الذين يفتعلون هذه الحوادث، وتداعياتها على الساحة الدولية، خصوصاً في لحظة تاريخية فاصلة يشهد فيها العالم حالة من الغليان بسبب النزاعات الأهلية والحروب والآثار الناجمة عن التغيّر المناخي والأوبئة عابرة الحدود.
ينبني كثير من النزاعات حول العالم على معطيات تتعلق بالهوية، وهو الأمر الذي جعل الاحتماء خلف المورثات التقليدية والنزوع العكسي نحو القبيلة والعشيرة بمفهومها العام والمطلق سيّد الموقف.
وكعادة النزاعات ذات البعد الهوياتي والعقدي، فإنّ تعرية الخصم من أي صفة شرعية وتحويله إلى فاعل منبوذ يُعدّان أُولى الخطوات للوصول إلى إباحة الخلاص منه، إما بالقتل وإما بالنفي وإما بالإبادة.
إنّنا نشهد ظاهرة من "النبذنة" على المستوى الدولي يكيلها كل طرف ضدّ الطرف الآخر، إنّها حرب أهلية عالمية شاملة، أو حرب الكل ضدّ الكل وفق التعبير الهوبزي.
في معركة النبذنة الشاملة هذه تلعب الرموز الدينية والقومية والمعتقدات والعادات الشعبية دوراً بارزاً، فالعبور إلى الجسد المُعرّض للاستباحة تمهيداً لنفيه أو إفنائه يكون من خلال تدنيس هذه التركيبة المتشابكة من المقدسات، إنّها إذاً معركة تدور على أرضية صفحات التاريخ، والمخيال الشعبي، والمعتقدات الدينية.
أدّت العولمة إلى حالة من الاختناق العابر للجغرافيا، فمع تطور أدوات الاتصال والمواصلات، ومع سهولة التحرك والتنقل، أصبحت البشرية تعيش حالة تكدس حيوي على نطاق عالمي.
وتحوّل مفهوم القرية العالمية من حالة التغنّي بمنجزات العولمة والحداثة إلى حالة هلع من هذا القرب الفيزيائي (الحقيقي والمتوهم) الذي ألغى معه الحدود الحقيقية والمتخيّلة وبات يحمل في طيّاته كثيراً من مشاعر عدم الاستقرار والخوف، خصوصاً في لحظات الانكسار والاضمحلال والانتكاسات السوسيو-اقتصادية.
وفي لحظة الخوف الوجودي التي تخلقها العولمة في ساعات الانكسار والتراجع هذه، يجري اللجوء إلى خلق أو توهّم عدوّ قريب ومن ثمّ محاولة صناعة مشاهد ملحمية متخيلة لصراع أزلي معه بحيث يُحمّل هذا العدوّ كل مسببات المشكلات والفشل.
ولأنّ العقل البشري يسعى دائماً إلى التبسيط فإنّ اللجوء إلى خلق هذا العدوّ من وحي الموروث التاريخي يصبح هو الخيار الأكثر سهولة والأقرب إلى التبني، ففي السياق الغربي دائماً ما يشكل الإسلام، برموزه من القرآن إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ذلك العدوّ الذي يتمتع بسهولة تخيّله، ومن ثمّ سهولة تفريغ حالة الاستياء تجاهه.
إنّه عدوّ جاهز، شكّلت الكتابات الاستشرافية على مدار قرون معالم ثابتة له شديدة الوضوح، ولذلك لا يصعب على المخيال الغربي تخيّل هذا العدوّ، ومن ثم تشكيل حلبة صراع معه على طول خطوط الصدع التي تسببها العولمة الحديثة.
لا يروق التفسير الهويّاتي للأزمة عديداً من الأقلام الغربية التي تخشى من أنّ إلصاق الدوافع الهوياتية بالأزمات التي تعصف بالغرب سوف يعرّي الليبرالية التي تعدّ درّة تاج الحضارة الغربية، ويظهر عيوبها.
وهذا التفسير الهوياتي للأزمة يعكس حجم الأزمة الليبرالية التي يعيشها الغرب، فوعود التجارة الحرة، والفردانية، والملكية الخاصة، لم تسفر عن مستقبل أفضل للغرب، فحجم التفاوتات الاجتماعية أصبحت جليّة على المستويات كافة في العواصم والمدن الغربية، ولم تعُد الروايات الكبرى عن نعيم التقدم الإنساني والتنوير تقنع شريحة واسعة من الغربيين الذين يرون أنّ ثقافاتهم المحلية تتهمش بفعل وسائل التواصل الاجتماعي، وبأنّ بناهم الاقتصادية القومية تتآكل لصالح شركات عابرة للقارات.
لقد بات المواطن الغربي العادي يشعر بتفاقم العزلة وحالة عدم الاستقرار والاغتراب حتى في ظل عيشه ضمن حدود دولته القومية، والسبب هو زوال "أيديولوجيات بناء الدول ما بعد الاستعمار في ظل تخلّي النخب التكنوقراطية العالمة عن قيم الديمقراطية الاجتماعية"، وترهّل دولة الرفاه الاجتماعي التي سادت في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية.
ويعتبر صعود تيارات اليمين بخطابها المعادي لليبرالية عكساً لمسار التقدم وفق المفهوم الغربي، ومن هنا فإنّ ظواهر من قبيل صعود ترمب، وحدوث بريكست، وحرب أوكرانيا، لا تمثل إجابات عن واقع غربي متردٍّ، بل تقدم أمثلة عن الأزمة التي يعيشها الغرب والليبرالية الغربية.
وتميل الأصوات الرافضة للتفسير الهوياتي للأزمة إلى إبراز نظرية المؤامرة، متّخذة من السياقات الموضوعية حجة لها لدعم نقاشاتها التي تحاول من خلالها الحفاظ على صورة الليبرالية بعيدة عن سهام النقد.
وتتمحور محاولات هذه الأصوات المُرافعة لصالح الليبرالية الغربية على حجتين، الحجة الأولى هي أنّ الذين يفتعلون أحداث إحراق القرآن هم أشخاص إما مريضون عقلياً، وإما ينتمون إلى تيارات هامشية في المجتمع لا يعبّرون ضمناً عنه ولا يمثّلونه. والحجة الثانية هي أنّ من يقف وراء هذه العمليات هم أشخاص محسوبون على جهات خارجية تسعى إلى استثمار عمليات إحراق المصاحف لتنفيذ أجندات خاصة.
ترى هذه الأصوات أنّ السويد تقع ضحية افتعال حوادث من أطراف خارجية تسعى لتشويه صورتها ومحاولة منع انضمامها إلى حلف الناتو، فحسب هذه الأصوات التي تتبنى نظرية المؤامرة فإنّ الجهات المستفيدة من حوادث إحراق المصحف هم روسيا وإيران على وجه التحديد، فروسيا تريد من خلال شيطنة السويد تعطيل دخولها إلى حلف الناتو، وذلك عبر استفزاز المشاعر الإسلامية في تركيا. أما إيرانياً فإنّ حوادث إحراق المصحف يجري استخدامها من أجل شَغْل الشعب عن الأوضاع الداخلية المترديّة في إيران وحالة الغليان في الشارع، بسبب المضايقات التي تمارسها السلطات على حرية التعبير، خصوصاً منذ إطلال الاحتجاجات بعد اعتداء الشرطة على فتاة إيرانية بسبب حجابها.
لا يثبت التفسير المؤامراتي مع حقيقة أنّ السويد، ومن خلال سماحها لمثل هذه الحوادث التي تحضّ على الكراهية وتمثّل اعتداء غير مقبول على مقدسات المسلمين، إنّما تعبّر عن عمق أزمة الهوية التي تعيشها، فالتغنّي بحرية التعبير والمبادئ الليبرالية يتنافى مع الفعل الذي يغذّي الكراهية وينمّي مشاعر العنصرية ونفي الآخر. وهو ما تفعله السويد أيضاً من خلال تقديمها الدعم للجماعات الإرهابية من قبيل PKK-PYD.
عندما تفشل الليبرالية في المزاوجة بين الحفاظ على حريّة التعبير من جانب، ومنع خطاب الكراهية والحضّ على العنف والإرهاب من جانب آخر، ينبغي عدم اللجوء إلى نظريات المؤامرة للتبرير، بل نكون في مواجهة أزمة هوياتية مستعصية تتخبط فيها الدولة والمجتمع بين مبادئ وقيم متعارضة تحركّها مشاعر الاستياء والخوف واللايقين، والنتيجة هي دولة تجعل من نفسها كياناً منبوذاً على المستوى الدولي.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.