الصحافي كامل مروة (Others)
تابعنا

خاف كامل من قيام البريطانيين باعتقاله عند وصولهم إلى بيروت، إذ إنه أيَّد حركة رشيد عالي الكيلاني في العراق ضد بريطانيا، وكتب مقالات ضد بريطانيا، وعمل مراسلاً لوكالة "ترانس أوسيان" الألمانية. أعد كامل حقيبته وقرر الفرار من لبنان، واستعرض في ذهنه الأماكن التي تصلح للاختفاء في زمن الحرب العالمية الثانية.

اختار كامل مروة تركيا لتكون وجهته في سفره، حصل على تأشيرة لها واتجه إلى حلب، التي كانت تعج بالرعايا من دول المحور على اختلاف أشكالهم، وهم يتأهبون للعودة إلى بلادهم خشية أن يدركهم الحلفاء. وكان المندوب الألماني في بيروت الهر روزر قد اتخذ من فندق بارون مقراً له، يشرف منه على ترحيل مواطنيه في عربات خاصة وضعت تحت تصرفهم.

عند الظهر اتجه كامل إلى القطار، وفي القطار رأى رهطاً من معارفه، يتجهون إلى تركيا من بينهم: عفاف الطيبي الذي عمل نقيباً للصحافيين اللبنانيين في الستينات، والدكتور محمد حسن سلمان وزير المعارف في وزارة الكيلاني، والشريف محمد شرف نجل الوصي على العرش العراقي مع عائلة الوصي، وغيرهم من الهاربين من وجه الحلفاء، وتألفت حلقة عربية وسط القطار الحافل الذي يتجه من حلب إلى تركيا.

راح القطار ينهب الأرض نهباً، ودخل القطار منطقة إصلاحية أولى المحطات التركية، وأخذ يتسلق جبال طوروس. حينها هدأت نفس كامل من ملاحقة البريطانيين له، وفي لحظة ألقى كامل نظرة إلى بلاده، ولم يتمالك إلا أن تفر منه دمعة وهاجس مجهول يهتف في أذنه: إنها نظرة وداع.. وبداية الغربة الطويلة!

غلاف كتاب مذكررات الصحافي كامل مروة (Others)

يصل كامل مروة أنقرة في يونيو 1941، حيث يجلس في فندق جيهان بالاس، لم يكن حديث العهد بالعاصمة التركية، إذ زارها أربع مرات قبل ذلك، ورغم انبهاره بالتحديث الذي أجراه أتاتورك في المدينة، فإنه شعر بالضجر منذ الأيام الأولى، فهي مدينة موظفين ودبلوماسيين ومدارس.

وصل كامل مروة إلى تركيا في زمن الحرب العالمية الثانية، وبعد وصوله بعشرة أيام اضطربت أنقرة ذات يوم، ففي يونيو 1941، هاجم الجيش الألماني روسيا، وسقط النبأ كالصاعقة على أنقرة، وكانت تركيا تخشى من صراع ألمانيا وروسيا أن تفقد حيادها في الحرب، ويجبرها المنتصر أن تكون من غنائم الحرب. وتاريخ تركيا مرتبط بروسيا فهي بحكم الوضع الجغرافي تعتبر السد الوحيد الذي يمنع روسيا من التوسع نحو البحار الجنوبية. انطلق كامل مروة في شوارع أنقرة التي عجت بالناس على وقع الخبر، ورأى مراسلي الصحف الألمانية والروسية أصبحوا أعداء حتى الموت، رغم أنهم بالأمس كانوا مجتمعين حول مائدة واحدة في المقهى يضحكون ويسمرون.

تجول كامل مروة في حي السفارات، ورأى السفارة الألمانية بجانب السفارة الروسية، وبينما كان يفكر في غرابة الصدف في جعل العدوين جارين متلاصقين، لمح كامل سيارة البارون فرانز فون بابن، وهو سفير ألمانيا في تركيا، والمستشار الألماني الذي تنازل عن المستشارية لهتلر عام 1933، انطلق البارون فرانز متوجهاً إلى الرئيس التركي عصمت إينونو حاملاً رسالة تطمين من ألمانيا لتركيا، وتطور الأمر إلى عقد تركيا اتفاقاً مع ألمانيا بعدم الاعتداء. ويخبرنا كامل مروة: هل كان يحلم فون بابن وهو ذاهب إلى مهمته بأن صباح ذلك اليوم سيكون بداية السلسلة التي ستجعله متهماً في محكمة نورمبرغ لمحاكمة النازيين بعد الحرب العالمية الثانية؟ لكن المحكمة حكمت له بالبراءة وعاش إلى عام 1969.

مع قدوم الصيف انتقل مروة إلى إسطنبول، وشعر بوخزة في القلب، لأنه تمنى أن يكون اتجاه القطار جنوباً نحو لبنان. ويصل مروة إلى إسطنبول أو دار السعادة، وهي أول مرة يزور فيها إسطنبول في الصيف، وينبهر بحياة المرح التي تنتشر على جانبي البوسفور والسفن تطفو فوق مياهه في فصل الصيف. يتجول مروة في أحياء إسطنبول ويرى حي "باي أوغلو" حيث تقطن الطبقات المنعمة والجاليات الأجنبية، ويرى منازل إسطنبول القديمة التي بُني معظمها من الخشب، وكلما ألقى أحدهم سيجارته وهي مشتعلة على الأرض، هدّد المدينة بحريق كبير. ولم تكن أخبار الحرب لتعكر صفو أهل إسطنبول، وفسر مروة ذلك بأن أهل إسطنبول اعتادوا مع الزمن القلق، لأنهم يعيشون منذ أكثر من ألف سنة حياة الإمبراطورية والحروب.

بدأت تركيا تستقبل نخبة من العرب الهاربين من الحلفاء في الشرق، ها هو ذا الأمير عادل أرسلان (شقيق شكيب أرسلان) يصل إلى أنقرة وينتقل إلى إسطنبول، ثم يتبعه الناشطون العرب مثل نبيه العظمة وعادل العظمة وهم من رجالات السياسة السورية، ويسجل نبيه العظمة في إحدى أوراقه، ذكرياته عن تلك الفترة في تركيا، حيث ترك حلب عندما كانت طلائع الجيش الإنجليزي تدخلها، وبعد أن فهم أن رشيد الكيلاني والحاج أمين الحسيني وقواد الجيش العراقي تركوا بغداد وتوجهوا إلى إيران ثم إلى تركيا. ومن فلسطين وصل عزة دروزة وأكرم زعيتر وواصف كمال، وهو رجل أعمال فلسطيني تولّى لاحقاً رئاسة البنك العربي في دمشق في الخمسينيات، ومن العراق طه باشا الهاشمي والزعيم رشيد عالي الكيلاني.

كانت إسطنبول فرصة لهؤلاء الزعماء لالتقاط الأنفاس وللتفكير في الخطوة القادمة في العمل السياسي. وهكذا أصبحت المدينة في أقلّ من أسبوعين مجمعاً للناشطين العرب الذين آثروا الغربة على البقاء، وأصبح اللسان العربي في مقدمة اللغات التي يسمعها المارة في شارع الاستقلال، ولم يخلُ مقهى أو مطعم أو فندق من العرب، حتى قال أحد الأتراك لكامل مروة: "كأننا في عهد مجلس المبعوثَين يوم كان النواب العرب يفدون إلى إسطنبول في مواسم معينة، فيملؤون العاصمة على قلة عددهم عروبة وعرباً".

كان السؤال الذي يشغل بال مروة في ذلك الوقت: لماذا لم تقدّم ألمانيا المساعدة الجدية لحركة الكيلاني ضد بريطانيا؟ والإجابة يشرحها في كتابه "برلين بيروت برلين" الذي سجّل فيه سيرة هذه المرحلة، وسبب ضعف مساعدة ألمانيا لحركة الكيلاني لأنها كانت مشغولة بالإعداد لحربها مع روسيا. واستطاع كامل مروة الاتصال بعدد كبير من السفراء مثل السفير الألماني الذي دعاه إلى مقر القنصلية الألمانية.

وأهم ما كان يشغل بال المغتربين العرب في إسطنبول في تلك الأيام مصير المفتي الحاج أمين الحسيني ورفاقه، بعد الهجوم البريطاني-الروسي على إيران، ورحلة هروب المفتي إلى ألمانيا. في تلك الأثناء وصل رشيد عالي الكيلاني إلى تركيا بعد أن التجأ إلى طهران عند فشل حركته، وطلب اللجوء السياسي في تركيا، ووافقت الحكومة في أنقرة، وطلبت منه أن يوقع كتاباً يتعهد فيه بالامتناع عن كل عمل سياسي، حتى تحافظ تركيا على حيادها، لكن الكيلاني فر إلى ألمانيا حتى يجتمع بالقيادات العربية التي أخذت تجتمع هناك مثل فوزي القاوقجي وغيره، وعلى أثر مغادرة الكيلاني بدأ العراقيون التوجه إلى ألمانيا، وانتهى العمل السياسي العربي المنظم سريعاً.

من أرشيف الصورة للصحافي كامل مروة (Others)

لم يشعر كامل مروة بالغربة في تركيا كما يخبرنا في كتابه، لكنه كان تحت رقابة البوليس خوفاً من أي تحركات سياسية تحرج حياد تركيا، وكانت إسطنبول في تلك اللحظة من الحرب العالمية الثانية مركزاً للجاسوسية يجتمع فيها الصحفيون والمراسلون ورجال المخابرات، لأنها كانت السد الفاصل بين الطرفين المتحاربين.

يكمل كامل مروة حكاية تجاربه في إسطنبول، حتى وقفته الشرطة خوفاً من أي اتصالات بينه وبين سفارات أجنبية، ولكونه صحفيّاً يعشق الأخبار ومصادر المعلومات. أوقعه هذا الأمر في شك من الجهات الرقابية، وفي أثناء الجلوس في قسم الشرطة قابل يهودياً قادماً من ألمانيا، دخل تركيا بلا جواز سفر، وهو ينتظر فيزا للدخول إلى سوريا، وجلس يحدّثهم عن مغامراته من برلين إلى إسطنبول، وهزّ واصف صديق مروة رأسه وقال: "سبحان الله! هو ذا يهودي هارب من أوروبا إلى سوريا، ونحن عرب هاربون من سوريا إلى أوروبا، وهما يلتقيان في هذه الحجرة. ما أغرب المصادفات وأقدار التاريخ!".

انتهى التوقيف بأن يخرج كامل مروة من تركيا إلى ألمانيا لينضمّ إلى نواة العرب الذين انتقلوا إلى هناك. خرج من تركيا وهو يشعر بأنه قام بمهمته في دعم القضية العربية، ولم يترك شخصية تركية أو محورية أو حليفة إلا اتصل بها.

على حدود بلغاريا في أدرنة قابل مروة شابّاً عربيّاً يبيع الشاورما، وسأله مروة عن قصته، وكان من حمص واسمه خالد الموسر، خدم في الجيش التركي في عهد سفر برلك، وحارب مع إخوانه الثلاثة في معركة أدرنة سنة 1912، فقُتلوا جميعاً فيها، ولما كان إخوانه آخر من بقي على وجه الأرض من أحبائه وأهله، أقسم أن يقضي بقية أيامه في أدرنة، وأن يُدفن إلى جانبهم، وروى الرجل القصة لكامل مروة ودموعه تنهمر من عينيه، والزبائن يفدون إلى المحلّ ويصرفهم بالإشارة.

عندما خرج كامل مروة من بيروت تَوقَّع غربة تدوم ثلاثة أشهر وبعدها يعود إلى لبنان، لكن الغربة أصبحت بالسنوات لأنه شتان بين حسابات مروة وحسابات القدر، تذكر وهو متكئ على حافة النافذة في القطار الذي يغادر تركيا قول الشاعر: "مشيناها خُطىً كُتبَت علينا…"، ورغم أن الفترة التي قضاها في إسطنبول قليلة نسبياً، فقد كانت مع اجتماعه مع الناشطين العرب فرصة للهرب من ملاحقات بريطانيا لهم.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً