العلمان الجزائري والفرنسي  (AA)
تابعنا

وقد بلغ مجموعها خمسين، وآخرتها كانت في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام المنصرم. معظم هذه المبادرات كان في عهد الرئيس بوتفليقة، ومبادرة واحدة في عهد الرئيس تبون.

بالنسبة إلى المبادرات الأربع فالأمر واضح، إذ إن بوتفليقة وحاشيته لا يجرؤون على الموافقة على مشروع قانون يقضي نهائياً على غطرسة الدولة الاستعمارية الفرنسية، التي ما زالت تتعامل مع الجزائر كأنها ما زالت تحت وصايتها. ففي عهد بوتفليقة كانت السلطات العليا تتدخل بكل الوسائل والطرق لإجهاض المشروع. هل سيرى قانون تجريم الاستعمار النور في عهد الجزائر الجديدة؟ وهل سينهي الرئيس تبون المسلسل الذي عمّر طويلاً في كواليس البرلمان وخزائنه؟

في الجزائر الجديدة، مع الأسف الشديد، ما زال ملفّ قانون تجريم الاستعمار الفرنسي يراوح أدراج البرلمان الجزائري، مبادرات ومحاولات لكن بلا جدوى، وآخر هذه المبادرات كانت في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي. ما سر عدم مناقشة المشروع والتصديق عليه، بخاصة أن الطرف الفرنسي صدّق على قانون تمجيد الاستعمار منذ أكثر من 15 سنة، وذلك في فبراير/شباط من سنة 2005؟ منذ ذلك التاريخ، تاريخ التصديق على قانون تمجيد الاستعمار في البرلمان الفرنسي، قيل الكثير عن قانون تجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، قانون لمحاسبة فرنسا عن أعمالها الإجرامية خلال 132 سنة ابتداءً من الاستيلاء على الأراضي الزراعية في جميع أنحاء الجزائر إلى أعمال الإبادة الجماعية العديدة إلى عدم الاعتذار.

القانون يطالب فرنسا بالتعويض المادي والمعنوي والاعتذار الرسمي

مشروع قانون تجريم الاستعمار يتكون من 54 مادة، تقع في 18 صفحة، "يهدف إلى إدانة الممارسات الإجرامية للاحتلال الفرنسي البغيض للجزائر، ويضع الأسس القانونية لاسترجاع الممتلكات الجزائرية المنهوبة من قبل جيش الاحتلال، كما يؤسس لمتابعة كل من تَورَّط في الجرائم المرتكَبة بحقّ الجزائريين، أو كل من يعمل على تمجيد ممارسات الاستعمار الفرنسي".

المشروع الجديد نسخة مُحدَّثة ومطوَّرة للعديد من المشاريع السابقة التي كُتب لها أن تفشل لاعتبارات سياسية، وبرزت مجدَّداً بعد سَنّ النواب الفرنسيين لقانون 23 فبراير/شباط 2005، الممجِّد للاستعمار، في ما عُرف بلائحة الردّ على النواب الفرنسيين، غير أن "التوجيهات السامية" الجزائرية حينها، ومنذ ذلك التاريخ، أسقطت كل المشاريع في الماء، فهل سينجح المشروع الجديد؟ وهل سينجح الرئيس تبون بمشروعه "الجزائر الجديدة" في أن يساعد على تمرير القانون وإقصاء أتباع فرنسا وكل من يعمل على إفشال المشروع؟

يرى الكثيرون أن التحدي كبير، وأن تبون مرشح للفوز بهذا الرهان الكبير. ومن أهم ما جاء في هذا المشروع، مشروع أكتوبر/تشرين الأول 2021 التأكيد والإشارة إلى "جرائم مستمرة تتحملها الدولة الفرنسية، مثل التجارب النووية في جنوب البلاد، والألغام المزروعة، وجريمة الألقاب الشائنة، بالإضافة إلى الجرائم المرتبطة بسرقة ونهب الأرشيف الوطني، ونهب الممتلكات الوطنية والتراث العامّ للشعب الجزائري".

ووصف المشروع هذه الجرائم بـ"المستمرة"، لأنها لا تزال تقتل وتشوّه الجزائريين، كما هي الحال بالنسبة إلى التجارب النووية في صحراء رقان، التي تسببت في تلويث الأرض والماء والهواء. فرنسا الاستعمارية ما زالت ترفض التجاوب مع المطالب الجزائرية المتمثلة في تنقية المناطق المتضررة من الإشعاعات النووية، كما لا تزال ترفض تسليم خرائط تلك التفجيرات وكذا الألغام المزروعة للسلطات الجزائرية، من أجل تفادي أضرارها وأخطارها.

ويصف مقترح مشروع قانون تجريم الاستعمار، الممارسات التي قام بها جيش الاحتلال الفرنسي في الجزائر، بأنها "حرب إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، فضلاً عن كونها أفعالاً وحشية تستهدف طمس ومسخ الهوية الوطنية الجزائرية"، وهذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، كما لا تسقط بقوانين العفو، وذلك استناداً إلى نصوص القانون الدولي الإنساني. كما يعتبر المشروع العمليات العسكرية التي قام بها جيش الاحتلال الفرنسي ضد الجزائريين، عمليات عدوانية استهدفت الشعب الجزائري في حياته وسيادته وكرامته وحريته، تُصنَّف ضمن الانتهاكات الجسيمة وفق القانون الدولي الإنساني والعرفي، وفق ما جاء في الوثيقة.

ويعرض القانون الأقدام السوداء (المعمَّرون الذين أتت بهم فرنسا إلى الجزائر لاستغلال الأراضي الزراعية التي سُلبت من الجزائريين) فيصفهم بأنهم وافدون غرباء على الجزائر، ومن ثم فليس لهم أي حقّ في المطالبة بممتلكات لهم في الجزائر، لأنهم تَحصَّلوا عليها بطريقة غير قانونية، كما يعتبر مشروع القانون "الحركي" (الجزائريون الذين حاربوا إلى جانب الجيش الفرنسي) خونة وعملاء، لأنهم حاربوا ضد إخوانهم وبني جلدتهم خلال الثورة التحريرية المظفَّرة. ويطالب المشروع السلطات الفرنسية بالاعتذار والتعويض المادي والمعنوي للجزائر والجزائريين عن كل الجرائم المرتكَبة بحقّ الجزائريين، ويمكن أن يضطلع بهذا الحق الدولة الجزائرية أو المنظمات والجمعيات، وحتى الأفراد الطبيعيون الذين فقدوا ذويهم جراء الحملات العسكرية الفرنسية خلال فترة الاحتلال البغيض.

جهود مضادَّة لعرقلة مشروع القانون

قد يتساءل القارئ الكريم: لماذا المماطلة وعدم الجدِّية في متابعة ملف تجريم الاستعمار الفرنسي والتصديق عليه؟ أو بعبارة أخرى لماذا إصرار قوى محدَّدة في السلطة الجزائرية على إجهاض المبادرة والقضاء عليها قبل أن تولد؟ المرجَّح أن قوى سياسية وبعض المقربين من الرئيس بوتفليقة ومحيطه والموالين لفرنسا كانوا يعرقلون كل المحاولات التي تهدف إلى تمرير مشروع القانون والتصديق عليه.

فرنسا بطبيعة الحال تبذل قصارى جهودها لإفشال المشروع لأنه يسبِّب لها أضراراً كبيرة جدّاً، سواء كانت مادية أو ما يتعلق بسمعتها على المستوى الدولي. الرأي العامّ الدولي ما زال إلى يومنا هذا يجهل أن فرنسا منذ دخولها للجزائر سنة 1830 قتلت أكثر من 8 ملايين نسمة، كما أنها أجرت تجارب نووية كانت أخطر بكثير من تجارب هيروشيما وناغازاكي. خلال 132 سنة نشرت فرنسا الجهل في الجزائر، إذ إن عدد المتعلمين من الجزائريين قبل الاستعمار الفرنسي كان أكثر بكثير من عدد المتعلمين غداة خروج فرنسا. الجزائر والضمير الإنساني والرأي العامّ العالمي بحاجة ماسَّة إلى كشف ما قام به أسوأ وأبشع استعمار عرفته البشرية على مرّ العصور.

ففي كل مرة يواجه المشروع عراقيل ورفضاً من قبل أعلى السلطات في البلاد، ففي عدة مناسبات تَدخَّل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من خلال حاشيته بوقف المبادرة، وقال لرئيس البرلمان آنذاك عمار سعداني إن "هذا الأمر هو من صلاحيات الرئيس ويتعلق بالسياسة الخارجية للجزائر، ولا يُسمح لأي كان أن يتكلم في هذا الموضوع". كما يُروى أن كلود غيون، أمين عامّ قصر الإليزيه في عهد الرئيس فرانسوا ساركوزي، انتقل إلى الجزائر خصوصاً لمقابلة الرئيس بوتفليقة ووقف المشروع.

هنالك من يرى أن الوقت قد حان لمناقشة المشروع والتصديق عليه بعد التصريحات الأخيرة للرئيس ماكرون التي أهان فيها الجزائريين من خلال تصريحاته بشأن تاريخ الجزائر التي كانت بعيدة كل البعد عن الحقيقة. مبادرات مشروع قانون تجريم الاستعمار الفرنسي تتوالى في كل عهدة برلمانية ولا تتوقف، لكن عناصر الفشل تتفوق دائماً على متغيرات النجاح بسبب موقف السلطات العليا. هل ستتغير المعطيات؟ وهل سيستطيع الرئيس تبون أن يكسر القاعدة ويجسِّد مشروعه "الجزائر الجديدة" من خلال تمرير مثل هذا القانون بكل ما يحمله من قدسية ودلالة ورمزية لتاريخ دولة ونضال شعب وتضحيات شهداء أبرار؟ هل سيفعلها الرئيس تبون؟ هذا ما ستخبرنا به الأيام القادمة.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً