تابعنا
تحصّن المجتمع الفلسطينيّ من تداعيات آثار العدوان الوحشيّ، فلم تفلح محاولات كيّ وعي هذا المجتمع وحرقه وغسل دماغه وتدمير روحه المعنوية وتحريضه على المقاومة وتحويلها إلى مقاومة سلبيّة تدميريّة للمجتمع.

ظهر المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة أثناء هذه الحرب وحرب 2014 من قبل مجتمعاً متماسكاً أشبه ما يكون بقلعة حصينة، ولم تستطع الطرق العسكريّة المتواصلة والضغط المتصاعد أن يصدّعا أركان تلك القلعة، أو أن يفتح ثغرات فيها، واستطاع المجتمع من خلال نسق متشابه لأفراده أن يمنح هذه القلعة قدرة على الصمود لتظل أبراجها شاهدة على صمودها ومتانة بنائها وقوة تحصينها.

المشهد الداخلي لهذه القلعة ظهر فيه المجتمع بصورة بالغة القوّة والإيجابيّة، وجرى تحويل الواقع الصعب والمزري إلى واقع إيجابيّ نسبيّاً، يخفّف من مخاطر التشرّد والمجاعة وانعدام الأمن رغم الاستنزاف الحادّ الذي يتعرّض له والإرهاق الطويل.

وقد أظهر المجتمع ثقته الكبيرة بنفسه وبمنظومة أفراده وبمقاومته وبجدواها، ما عزز ثقة نسق الأفراد بهذا المجتمع الواثق.

ووفّر المجتمعُ الملاذَ الآمن للمقاومة واحتضنها وحماها وقدّم لها المدد الدائم من الرجال والحاجات ومقومات الاستمرار.

وقد استطاع المجتمع تجاوز لوازم الحروب على المستوى النفسي، فلم يُصَب بالأمراض النفسية المزمنة، مثل الكآبة والشعور بالإحباط والرغبة بالتخلص من الحياة، وطوّر مشاعره باتجاه الرضا بقضاء الله وقدره، والخضوع لإرادته، والصبر على ما هو فيه رغم شدّة الأذى وعظم البلاء الذي أصابه.

ثم سلّم هذا المجتمع الجديد ثقته ورايته قيادةَ المقاومة لإدارة المرحلة الصعبة وتنفيذ وظائف تجميع المصالح وإدارة الصراع وتحسين الوضع المأزوم وفرز القيادات الميدانية والانشغال بالمعركة، وهو ما عمل الاحتلال على تفكيكه بضرب كل بناء ومرافق خدمية ومؤسسة تعاونية ونظام عاملٍ من دون هوادة.

كما تحصّن المجتمع الفلسطينيّ من تداعيات آثار العدوان الوحشيّ، فلم تفلح محاولات كيّ وعي هذا المجتمع وحرقه وغسل دماغه وتدمير روحه المعنوية وتحريضه على المقاومة وتحويلها إلى مقاومة سلبيّة تدميريّة للمجتمع، وقد كان لأداء المقاومة وإعلامها دور بارز في هذه الحصانة المجتمعية، لا سيما مع المصداقية العالية التي أبرزتها المقاومة لدى إبراز كشف حسابها ودقة معطياتها، حتى إن المجتمع الصهيوني نفسه كان يصدّق إعلام المقاومة ولا يصدّق إعلامه.

هذه المعركة قدّمت للمجتمع وصفة الدواء الناجع سريع المفعول، وشعور هذا المجتمع المقاوِم بتميّز مقاومته وإبداعها في تكتيكات القتال والإعداد له في طوفان الأقصى دفعه نحو تبنّي هذه المقاومة والالتفاف حولها

كما لاحظنا نمو أنماط القوة في نقاط الضعف في الوعي الجمعيّ للمجتمع المحافظ ولاسيما في النساء اللواتي مَنَحن المجتمع قوة دفع كبيرة ظهرت في التكيّف السريع مع الكارثة وعدم السماح لها بالسيطرة على مشاعرها والاتجاه صوب المشاعر الإيجابية باعتماد مبدأ الصبر والتعالي على الجراح، وانتهاج سلوك عملي يدعم المقاومة ويقدم لها المعلومة والتأمين وإشاعة الطمأنينة وروح الثبات في المجتمع عبر سلوكيات جديدة تمثلت في الفرح بالشهادة وإعلان تقديم الأبناء لملحمة الصمود وإظهار التحدي في المنابر والشاشات، والتعالي على الجراح، وبث روح الصمود والتوازن.

لقد تحقق لدى المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة ما يمكن تسميته بالتفوق النفسي الذي تجاوز انحطاط اليأس والتشاؤم، وسطحية التفاؤل السلبي وسذاجته، وتماثل للشفاء في وسطٍ صحّي تفاعلت فيه الروح المجروحة مع معاناة الجسد المكدود فاستولد نفساً استثنائيّة تسمو بإيجابية العمل ونفعيّة الحركة.

إن التغيّر الاجتماعي في القطاع نتج عن حركة اجتماعية ثورية امتدّ فعلها لعقدين من الزمان تقريباً، وقد ظهر لنا أنّ الفرد الذي ينشأ في حاضنة المجتمع ويمتص ثقافته بالاتصال المباشر، يهتدي بطبيعته إلى السنن والقوانين التي تنظم حياة هذا المجتمع، فتكبر من خلال شخصيته الواعية مفاهيم الـ"نحن" أي شعور الفرد بالكيان الاجتماعي المتصل به، ووصل المجتمع إلى حالة وعي جماعية بأن الاحتلال هو القهر والكارثة الحقيقية، وأن رفض الواقع يجب أن يتجه إلى الأسباب الرئيسة فيه وهي الاحتلال.

كما ساهم تغيير مستوى النظر وزواياه نحو القيم الكبرى في تسريع عملية التغيير المجتمعي، فقد تغير مستوى النظر إلى الموت والحياة، أي مستوى النظر للزمن، فلا قيمة للزمن أو للحياة مع وجود المحتل، وترتفع قيمة الحياة بتناقص وجود المحتل؛ وأصبحت الشهادة مكافئة للزواج والميلاد في الفرح العارم وتحويله إلى مشهد حياة وانتصار؛ فحدَثَ هنا ضبطٌ اجتماعي أدى إلى مفاعيل غير متوقعة في إعادة صياغة قِيم المجتمع واتجاهاته واهتماماته، كما أن تراكم الاضطهاد والاستغلال والشعور بالمظلومية ولّد روح التمرد والثورة التي كانت تتسم بالفوضى في بداياتها ثم عبَرت نحو التنظيم .

إن الناظم الاجتماعي الجديد كان هو في وحدة المعاناة ووحدة المصير والقناعة بالحل القاسي لتغيير الواقع ولزوم دفع أثمانٍ غالية لتجاوزه، وأنه لم يعد يجدي التشبث بأي شعار غير عمليّ، وكانت القيمة العليا في هذا الناظم هي المقاومة التي انتظم جميع الأفراد في سلكها بكافة أشكال الانتظام المادية والمعنوية والروحية.

لقد تغيّرت آليات الضبط الاجتماعي والمتحكّمات في الواقع الغزي تبعاً للضغط الكبير المفروض على هذا الواقع، فبالإضافة إلى عظم التحديات وقلة الفرص وانعدام الخيارات وضعف الإمكانيات، فإن تتالي الحروب وتتابعها ضغَطَ الوقتَ اللازم لإجراء عمليات التغيير الاجتماعية وجعلها أكثر سرعة، ما جعل المجتمع أكثر إدراكاً وحيوية، واتجه صوب التنظيم التلقائي لوعيه في سلوكه الخارجي فتحولت مسارات الفوضى إلى نظام.

ولم يتأثر المجتمع الفلسطيني بمحيطه الإقليميّ المريض، بل إن هذا المجتمع عزل نفسه عن المجتمعات العربية ونظمها الحاكمة، بعد أن أدرك أن انتظار حركة الشعوب وقرارات الحكام لا يمكن أن يكون سياسة ناجحة، وأن الفعل الحقيقي يأتي من مبادرات وطنية استثنائية تقنع الجماهير بضرورة الاعتماد على مبدأ المقاومة، وأنه الخيار الاستراتيجي الوحيد لحل المشكلة الفلسطينية المعقدة رغم كلفه وخسائره، إذا أخذنا حسابات طول زمان السياسات الفاشلة في تكريس الخسائر نظراً لطبيعة حراكها التكتيكي البعيد عن المقاربات الاستراتيجية.

هذه المعركة قدّمت للمجتمع وصفة الدواء الناجع سريع المفعول، وشعور هذا المجتمع المقاوِم بتميّز مقاومته وإبداعها في تكتيكات القتال والإعداد له في طوفان الأقصى دفعه نحو تبنّي هذه المقاومة والالتفاف حولها، واستطاعت المعركة أن تستولد القناعات الإيجابيّة التي أحدثت الشعور بالمفارقة والتميّز، فانتصر الشعب والمقاومة حين لم يرفعوا الراية البيضاء وأصرّوا على حقوقهم.

لقد أدرك المجتمع الفلسطيني في الوقت نفسه أنّه مجتمع متفوق ومتميز ويستحق النصر، وبات ينظر إلى مجتمع العدو على أنّه مجتمع مفكك منقسم لا يحتمل الضغط أو الحروب الطويلة أو تراجُع الرفاه.

كما شعر المجتمع الغزي بأن مقاومته وصلت إلى مرحلة زعزعة الجبهة الداخلية الصهيونية وإشعارها بالرعب وإعادة الحسابات النهائية بعد تلك الموجة الهائلة في طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفهم المجتمع أن الانتصار لا يقاس الآن بعدد الشهداء وحجم الدماء وضخامة الدمار، بل بقدرتك على ضرب قيم العدوّ وإسقاط هيبته وسمعته في التفوّق، وإفشال العدوّ، ومنعه من تحقيق أهدافه واستنزافه.

وانهارت قدرة العدو على منع ظهور قوة فلسطينية في خاصرته يمكن أن تكون سبباً في إحداث خرق استراتيجي كبير في المستقبل إذا تغيّرت ظروف المنطقة التي بدأت بالتغير فعلاً، بعد هذا التجاوب الكبير في الرأي العام العالمي بخاصة في مستويات الشبابيّة الشعبيّة.

وشاهد المجتمع الفلسطيني انهيار معنويات قطاعات واسعة من المستوطنين في غلاف قطاع غزة وفي الشمال وفرار مئات الآلاف منهم إلى مناطق أكثر أمناً فيما كان مئات الآلاف في المدن والضواحي يفرّون إلى الملاجئ المجهزة فور سماعهم صفارات الإنذار.

وانكشف لدى المجتمع الفلسطيني كيف أصبح تحقيق حلم الدولة اليهودية عبئاً على الكيان (إسرائيل) فهي "دولة" تحتاج إلى استقرار وتنمية وهدوء، لذلك تستخدم الردع، وعندما يضعف الردع تضعف الدولة ويُضرَب المجتمع من الداخل ويحين الزوال.

لقد أعادت المعركة إلى المجتمع الفلسطيني أمام العالم أصول قضيته الأولى وهي أنهم شعب محتل شرّد من أرضه، وأنّ قصة الكارثة لم تبدأ يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بل قبل ذلك بأكثر من سبعين عاماً، وأنّ له قضية عادلة فعادت إلى الأجيال ذاكرة الوطن وعرفوا الصواريخ الطائرة على المدن والقرى الفلسطينية المحتلة عام 1948 والمسافات الموصّلة إليها.

إن المجتمع الحديدي المقاوِم هو المجتمع المحتسِب الصابر، الذي يتعامل مع الكوارث بمنطق التصبّر، ويرفض إظهار الجزع، ويضبط نفسه لئلا تنهار أمام الكارثة، ويتطلع إلى تغيير إيجابيّ تاريخيّ قريب بعد أن يهزم واقعه الصعب ويغير معادلاته المعقّدة، وقد بدا هذا المجتمع في أعظم حالاته الإيجابية، وظهرت فيه بقوّة قِيم التعاطف والتكافل والإيثار والتضحية والبذل وتحمّل الأذى والمصابرة، ليكون قادراً على التكيّف مع ظروفه القاسية بتميّز فذّ وقف له العالم احتراماً.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي