مجموعة من المهاجرين الأوكرانين يغادرون بيوتهم جراء الحرب التي تشنها روسيا على بلادهم (Serhii Nuzhnenko/Reuters)
تابعنا

طبعاً لا يمكن أن نربط بين الشعبوية والهجرة فقط، لأن أسباب الشعبوية متعددة، ولكن الهجرة من عواملها الرئيسية الدافعة. فهل ستفضي الحرب الدائرة رحاها في عقر أوروبا، بأوكرانيا، إلى تأجيج الشعبوية، وإعطاء دفعة إلى الاتجاهات التي تتبناها؟

لا بد أن نقف عند طبيعة الحرب الحالية، فهي مختلفة عن الحروب التي تواترت منذ الحرب العالمية الثانية، لأنها حرب تغلق قوساً وحقبة زمنية وتنهي منظومة. تضع حداً لقضايا، وتطرح أخرى، وتُغير سُلم الأولويات. تعيد شبح الحرب الباردة، وتدفع بصراع الحضارات، أي أننا في دائرة حدث يغلق حقبة ويفتح أخرى. يضع حداً لنموذج (براديغم) ويفتح الباب لآخر.

اللافت في خضم الحرب، هو أعداد المهاجرين والنازحين الذين يفرون من أوكرانيا. نحن في البداية فقط. ويمكن تصور التغييرات الممكنة على النازحين، وظروف عيشهم، وعلى دول الاستقبال كذلك (من المتوقع أن يصل عدد اللاجئين إلى خمسة ملايين)، جراء العبء الاقتصادي ومشاكل الاستيعاب والإدماج.

حسب إحصائيات الأمم المتحدة، فجموع المهاجرين والنازحين، فراراً من الحرب الروسية الأوكرانية، يتجاوز المليونين، في أقل من أسبوعين، وهو رقم غير مسبوق في العالم. ينبغي أن نميز هنا بين الهجرة، التي هي بالأساس فعل اختياري، والرحيل أو النزوح الذي هو فعل اضطراري. نحن هنا أمام ظاهرة النزوح الذي يفرض تحديات مغايرة لتلك التي تفرضها الهجرة، أي من يفر إبقاءً على جلده، وليس بحثاً عن فرص تحسين وضعه الاجتماعي.

أبدت الدول الأوروبية هبّة تضامنية في دول الجوار، وبخاصة المتاخمة لأوكرانيا، بولندا ومولدافيا، وعبرت دول غربية عن استعدادها لتقديم المساعدة. لم تستطع هذه المجتمعات أن تخفي سياستها الانتقائية لمن ليسوا أوربيين أو بيض أو مسيحيين، لكن بغض النظر عن هذه الجوانب التي تكشف نفاق الغرب، وكيله بمكيالين فالذي يهمنا هو الجانب الإنساني، والتداعيات الممكنة للظاهرة. فظاهرة النازحين مرشحة للتزايد. فهل تستطيع الدول الغربية، إن استمر لهيب الحرب أن تبقى في دائرة التصريحات المطمئنة، والنوايا الحسنة؟ وماذا لو استفحلت الأزمة الاقتصادية، وأضحت مناصب شغل السكان الأصليين في دول الاستقبال مهددة؟

منطق الأشياء أن تغذي الهجرةُ الشعبويةَ، لكن طبيعة النازحين لا تجعل منهم "الآخر"، مَن تحب المجتمعات الغربية أن تكرهه لأنه لا يشبهها، ولا هو قابل للاستيعاب أو الإدماج. الأوكراني ليس هو "العدو الضروري"، الذي اضطلع به العربي والمسلم أو الإفريقي، لدى الغرب.

فهل يمكن أن نعتبر الحرب القائمة في أوكرانيا العد العكسي للشعبوية؟ مارست الشعبوية منذ أن تبدت مساويء العولمة، في بداية الألفية ثم مع الأزمة المالية لسنة 2008، ما يسميه الباحث الأمريكي باري إشنغرين Barry Eichengreen بإغراء الشعبوية، فهل لا يزال هذا الإغراء قائماً؟ كانت الشعبوية رد فعل ضد الهجرة، والخوف من فقدان مناصب العمل، والخشية من تغيير بنية المجتمع، وفق ما يسمى بالهلع الديموغرافي، وتغير الثقافة والقيم. منطق الأشياء أنه في ظل استفحال الهجرة والنزوح ستزداد ردود الفعل، ومن ثم خطابات الشعبوية.

ينبغي هنا أن نميز بين السبب والنتيجة، بين العَرض والداء. فالشعبوية عَرض، أو الظاهر من الجبل الثلجي، إذ إنها تعبير عن أزمة متعددة ذات طابع اقتصادي وسياسي واجتماعي، توظف الهجرة أو الآخر مشجباً لها، وبتعبير آخر فالشعبوية هي الشجرة التي تخفي الغابة، وعوض أن ينصب النظر على الشجرة، ينبغي النظر في الغابة.

اكتست الشعبوية بُعداً مقلقاً، لأنها تقوم على الحمائية ومفهوم ضيق للسيادة، وصفاء الأجناس والثقافات، وما يترتب عن ذلك من الكزونوفوبيا (العداء للآخر) والإسلاموفوبيا، مما يهدد العيش المشترك داخل المجتمعات. والأدهى و الأمَر، أن الشعبوية أضحت عبارة عن شبكة، أو أممية، ترتبط بقيم مشتركة، ومنها تمجيد السلطوية، ومحورية القائد وغلبة التقاليد. والطريف أن الشعبوية اليمينية الغربية كانت تمتدح الرئيس الروسي بوتين وأسلوبه القوي، ونفوره من الليبرالية، وكان هو من جانبه يغازل القوى الشعبوية في الغرب، ويراها الأقرب إليه.

فهل فقدان الاتجاهات الشعبوية لواحد من مرجعيتها، يجعلها تتراجع ؟ هل بدأت مرحلة الجزر؟

لا نستطيع أن نتكهن بشيء، وقصارى ما نستطيع هو أن نعقد المقارنة مع سوابق في التاريخ. ظاهرة الشعبوية تذكر بالسياق الذي برز في أوروبا في ثلاثينات القرن الماضي جراء الأزمة الاقتصادية، وأعطى دفعة قوية للاتجاهات الفاشية. تتقاطع الشعبوية اليمنية مع الفاشية، في أسلوبها وتمجيدها للقوة والوله بالقائد، وتختلف عنها لأن الشعبوية ليست آيديولوجيا.

التاريخ يعيد نفسه ولكنه لا يتكرر. كل صيغة جديدة قد تذكِّر بصيغة قديمة، ولكنها تحمل عناصر اختلاف. المرجح أن الاتجاهات الشعبوية، ستعرف أزمة، لأنها في ذاتها كانت تعبيراً عن أزمة، ولم تكن تحمل حلاً ولا بديلاً، تكتفي برفض ما هو قائم.

تأرجحت المجتمعات الغربية من أزمة إبستمولوجية أي الارتباك في تدبير قضايا معقدة، إلى أزمة وجودية، أمام إخفاق النموذج الذي كانت تحمله الليبرالية، وكانت الشعبوية تعبيراً عن الأزمتين، وتجد المنفذ بإلقاء اللائمة على الآخر. واللافت في خضم الحرب، والأزمة المترتبة عنها، هو انكفاء الزعماء الشعبويين واضطرارهم إلى مواقف تبريرية أو دفاعية.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي