إجلاء المواطنين الفرنسيين من السودان مع احتدام القتال في البلاد / صورة: Reuters (Etat-Major Des Armees/Reuters)
تابعنا

توجد أسباب داخلية جوهرية أدت إلى اندلاع الاشتباكات العسكرية في السودان بين الجيش الوطني وقوات الدعم السريع، في مقدمتها تضخم قوات الدعم السريع علي حساب الجيش والطموحات اللا محدودة لقائدها المشهور بـ"حميدتي"، الذي وصل بسرعة الصاروخ إلى قمة القيادة السياسية منذ سقوط النظام السابق عام 2019.

وعلى الرغم من أن حميدتي حاول مؤخراً أن يعزو خلافه مع الجيش حول الموقف من الاتفاق الإطاري الذي ترعاه الرباعية الدولية وتدعمه قوى الحرية والتغيير، كما حاول أن يقدم نفسه للدوائر الغربية باعتباره راعياً للتحول الديمقراطي وحريصاً عليه، وللقوى الإقليمية المناوئة لتيارات الإسلام السياسي على أنه حريص علي تطهير الجيش ممن يصفهم بالعناصر الإسلامية، فإن كثيرين يرون أن الرجل يقاتل من أجل تحقيق طموحاته الشخصية وحماية مصالحه الاقتصادية التي اكتنزها من تهريب الذهب ومن عائد مشاركة قواته في حرب اليمن.

كما توجد أسباب كثيرة داخلية أوصلت الطرفين إلى هذه النقطة، ولكن وسط كل هذا توجد دلائل قوية ومؤشرات تقود إلى أن الصراع بين القوى الخارجية على الموارد والنفوذ، وتقاطع أجندتها ورؤيتها لمستقبل السودان كان من أسباب اندلاع هذه الأزمة.

في اعتقادي أن القوى الخارجية الدولية والإقليمية ساهمت مساهمة كبيرة في جر السودان نحو الحرب إما طمعاً بموارده، وإما رغبة بتشكيل مستقبله وفق مصالحها.

منذ اليوم الأول لإسقاط النظام السابق قبل أكثر من أربعة أعوام تبين وجود مشروع خارجي جرت هندسته في عواصم غربية وعربية وينفذ بالسودان، وظهرت معالمه حين استقدم رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك البعثة الأممية بخطاب اتضح لاحقاً أنه جرت صياغته بواسطة السفير البريطاني في الخرطوم، ولم يكن أمام المكون العسكري الذي تفاجأ بتلك الخطوة حين جرى طرحها في اجتماع مجلس الأمن الدولي في نيويورك إلا الإذعان لها ومحاولة تدارك ما يمكن تداركه.

وبتمرير القرار الأممي رقم 2524 بات المبعوث الأممي فولكر بيرتس أحد أهم أضلاع العملية السياسية في البلاد، وحققت به "قوى الحرية والتغيير" هدفها بدعم موقفها مقابل الجيش والقوى الوطنية الأخرى، وطوال الفترة التالية لسقوط البشير نشطت قوى دولية وإقليمية في التدخل بالشأن السوداني بصورة غير مسبوقة، حتى إن "حميدتي" نفسه اعترف مرة بأنهم سيوقعون على المقترحات الخارجية (رغم أنفهم).

تركز اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها الاتحاد الأوروبي بمحاصرة الوجود الروسي في السودان، والذي كان بدأ في توطيد أركان وجوده منذ 2017، حينما طلب البشير الحماية الروسية ضد ما سماها وقتها (الاعتداءات الأمريكية على السودان)، ووقع اتفاقيات مع الروس أهمها يمنح روسيا قاعدة على البحر الأحمر، وتمكينها من التنقيب عن الذهب.

شكلت تلك الاتفاقيات محور قلق كبيراً للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين على السواء، وصعدت حملتها الرامية إلى تضييق الخناق على النظام السابق حتى إسقاطه.

بعد التغيير لم تهتم الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين كثيراً بانتقال البلاد نحو تجربة ديمقراطية تحقق الاستقرار والازدهار، ولم تتحمس البعثة الأممية للحديث عن الانتخابات، ولكن ركزت تلك الجهات على مصالحها وأجندتها.

فبينما انشغل المحور الإقليمي بالتضييق علي الإسلاميين عبر أدواته من تجمع أحزاب قوى "الحرية والتغيير"، مركّزاً على عدم عودتها إلى المشهد بأي ثمن، نجحت الضغوط الغربية التي مورست على الجيش السوداني بجعل الفريق عبد الفتاح البرهان يجمد الجانب المتعلق بالقاعدة الروسية على البحر الأحمر، باعتبار تلك القضية أولوية قصوى للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بخاصة بعد الحرب الروسية-الأوكرانية ومحاولة تلك القوى نقل الحرب مع روسيا إلى أي مكان.

وعلى الرغم من أن الجيش السوداني استجاب لتلك الضغوط، فقد حرص على إبقاء التواصل مع الجيش الروسي في برامج أخرى تقديراً للأهمية الاستراتيجية لروسيا في المسرح الدولي.

في ظل توتر علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية حاول حميدتي، الذي تضاعفت قوته العسكرية والاقتصادية وعلاقاته الإقليمية المستقلة عن الجيش ووزارة الخارجية السودانية، وراثة علاقات التعاون القديمة التي نسجها النظام السابق مع روسيا، ووسع مجالات العمل معها متجاهلاً المخاوف الأمريكية التي عبر عنها أكثر من مسؤول أمريكي.

وبالنسبة إلى القوى الغربية ارتكب حميدتي خطأه الأكبر بزيارته موسكو قبيل اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية بيوم واحد، وأعطى انطباعاً بأن اتفاق القاعدة الروسية على البحر الأحمر لا يزال قائماً وبأن رؤيته تخالف رؤية قيادة الجيش التي تعاملت بواقعية مع الملف الروسي في ظل الأوضاع الانتقالية الهشة التي يتجاوزها السودان، إذ تعلل الجيش بعدم وجود برلمان يصدِّق على الاتفاق مع روسيا.

زيارة حميدتي وتصريحاته تلك جعلت واشنطن ترى بتحركاته الإقليمية خطراً يهدد أمنها القومي وتصعد حملتها ضده، وتربط بينه وبين تمدد قوات فاغنر في المنطقة.

وعلى ضوء ذلك ركز الإعلام الغربي علي علاقة حميدتي بشركة مروي غولد الروسية التي زعمت تقارير غربية أنها هربت أطناناً من الذهب تقدر بمئات مليارات الدولارات. ومما زاد غضب الغربيين تقديرهم أن بوتين استطاع امتصاص أثر العقوبات الغربية على بلاده مستعيناً بذهب السودان عبر مطار اللاذقية بمساعدة قوات الدعم السريع، وعنونت صحيفة التلغراف البريطانية تقريرها عن الموضوع بذلك (أطنان من الذهب هربت من السودان لإنقاذ بوتين).

وبداية العام اتهمت تقارير مخابرات غربية حميدتي بالتورط مع فاغنر بانقلاب تشاد وزعزعة استقرار جمهورية إفريقيا الوسطى، فاضطر حميدتي إلى نفي تورط قواته بأي نشاط خارج الحدود.

أما في فبراير/شباط الماضي وبينما كانت طائرة وزير الخارجية الروسي تهبط بمطار الخرطوم ضمن جولته الإفريقية، وصل إلى السودان على جناح السرعة ستة مبعوثين غربيين (5 أوروبيين، والمبعوث الأمريكي)، ما يؤكد أن الصراع الذي يتمظهر تحت لافتات مختلفة بالداخل هو تعبير عن هذا الصراع الأكبر الذي يدور بين القوى الغربية وروسيا.

ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية سعت لوقف إطلاق النار تجاوباً مع رؤية البعثة الأممية في السودان وبعض الأحزاب المتحالفة مع حميدتي، فإن تصريحات وزير خارجيتها في الأيام الأولى لاندلاع الاشتباكات تلخص الموقف الأمريكي الحقيقي في هذه الأزمة، إذ قال بلينكن: "نشعر بقلق بالغ لوجود مجموعة فاغنر في السودان، فاغنر النشطة في مالي وإفريقيا الوسطى والمشاركة في الغزو الروسي لأوكرانيا تجلب معها أينما تحركت مزيداً من الموت والدمار".

ولكل ذلك فإن القوى المناوئة للتمدد الروسي المنطقة ربما ترى مصلحة باختفاء حميدتي من الساحة أو تقليم طموحاته الإقليمية وقدرته على التأثير بالسياسة الخارجية للسودان، إذ إن من المؤكد وقوف الولايات المتحدة الأمريكية وراء الحملة الإعلامية التي استهدفت حميدتي وقواته الفترة الماضية، وبالتالي لا تريد أن تري حميدتي يؤدي ذات الأدوار السابقة.

من جانب آخر فإنها وإن كانت لديها ملاحظاتها على الجيش السوداني، فقد أكدت التجربة أن السياسة الأمريكية تمتلك من البراغماتية الواقعية ما يجعلها تتجاوز شعاراتها عن الحرية والديمقراطية لصالح أولوياتها بالأمن والاستقرار.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي