جامعة الدول العربية (AA Archive)
تابعنا

إن انطلاق حملات التلقيح ضد الفيروس التاجي في مختلف دول المعمورة، لا بد وأن تستفزّ الوعي للتساؤل عن فيروسات أخرى تستشري في عالمنا العربي الإسلامي.

كما أن ذات المناسبة تدعو إلى إمعان النظر في حالة الانهزامية والانتظارية القاتلة، التي أصيبت بها الدول والشعوب العربية، وهي تترقب وصول اللقاح، بعد سنة من الركود الاقتصادي والتردّي الاجتماعي.

فكم من لقاح يلزمنا للتخلص من أعطابنا البِلا حدود؟ وأي أنواع اللقاح أجدى وأنفع لتحرير السردية العربية من مآسي الانهزامية والتفقير والسلطوية؟ وهل تفيد حتماً جرعة واحدة أو جرعتان أو أكثر للتخلص من فيروسات التخلف والظلم والسقوط الفظيع؟

لنتأمل الشعار الذي اختاره المنتدى الاقتصادي العالمي الذي سينعقد في شهر مايو/أيار القادم، لقد انتصر لفكرة/سياسة "إعادة الضبط الكبرى" Great Reset، اقتناعاً بأن ما يحتاج إليه العالم اليوم هو إعادة تضبيط للمفاصل والتفاصيل كافة، لتحقيق الخروج الآمن من تداعيات الجائحة.

وبالطبع فالأنظمة السياسية في العالم ستختلف في "استقبالها" وتمثلها لفكرة إعادة الضبط، فالبعض سيراها ممكنة عبر توطيد مفهوم الدولة الاجتماعية، فيما البعض الآخر، ومنه الدول العربية، سيراها محسومة بالضرورة في توكيد الحاجة إلىالدولة الحارسة، التي تقوّي حضورها التسلطي في المجالين العام والخاص أيضاً.

فما نلاحظه حالياً من "ردة حقوقية" في شمال إفريقيا وباقي دول الشرق الأوسط يعني في ما يعنيه، أننا مُصابون بمتلازمة ذاكرة السمك، وأن كل الدروس التي تعلمناها من الجائحة، نُسِيَتْ سريعا، وأن لا شيء يمنع الدولة العميقة من العودة إلى سابق عهودها.

فما نلاحظه في كثير من الأنساق، يظلّ موزَّعاً على مسارين على الأقلّ: سلطويات آخذة في التغوُّل، وشعوب غارقة في الانهزامية، وما بينهما هُوَّات سحيقة من الفوضى واليأس والخنوع واللا ثقة.

فلم تقُد الجائحة إلى "إعادة ضبطٍ" إيجابية، تفيد منها الدول وشعوبها في الآن ذاته، وإنما قادت إلى تعميق "أزمة الثقة" بين الحاكم والمحكوم، فضلاً عن تجذير كثير من الإخفاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

لقد عملت الجائحة على خلق مُناخ من السلبية والانهزامية المقيتة، خصوصاً لما أمعنت الدول في إقرار الكثير من القيود المحبطة للأفراد والجماعات، بمنعهم من السفر والتحرك والاحتجاج والتجمع.

إذ ظهرت الدولة بملمح "الوحش" القادر على القيام بكل شيء، وأن المطلوب من "المواطن" هو اتباع وتنفيذ التعليمات والأوامر، وتحمُّل تبعات عدم الامتثال.

هنا بالضبط صارت الانهزامية تتسرب إلى الأبنية النفسية، وتصير واقعاً يمكن قراءته في حالة "الاستبياع" الجماعي التي تجعل من المواطن إياه "غير معنيّ" بما يجري ويدور من حوله.

ولهذا كثيراً ما يجب الانتباه إلى أن التدبير السيئ هو أن تحوّل مواطناً كان يهتمّ بكل شيء إلى شخص منهزم ومُحبَط لا يهتمّ بأي شيء ولأي شيء.

لقد عملت الدولة العربية في صيغها السلطوية المتعددة على توطين الانهزامية والسلبية في الأبنية النفسية للأفراد والجماعات، وذلك عبر أساليب متفاوتة الدرجة والنوع، تختلف طبعاً باختلاف السياقات الداخلية والخارجية.

فبعد أن كانت سنوات الجمر والرصاص، تضمن لذات الدول "الاستعمال السعيد" لفنون القمع والتنكيل، فإن السنوات الحالية، وبسبب إكراهات وموجبات تلميع "الصورة الديمقراطية" على المستوى العالمي، صارت تتطلب استعمال الأجهزة الآيديولوجية أكثر من اللجوء إلى طلب خدمات الأجهزة القمعية.

وبذلك دخلت الميديا والبروباغندا ومختلف فنون غسل الأدمغة والإلهاء والتضبيع، دخلت على الخط، لإنتاج مواطنين طيّعين لا يفكرون خارج الصندوق، ولا يُسمح لهم إلا بترديد الرواية الرسمية.

إن التأخر في تدبير وحلّ الأزمات، جعل المواطن العربي مصاباً بحالة إحباط مزمن، ساهمت في "تغذيتها" وتعميقها جائحة كورونا التي لم نساهم في حلحلتها، إلا بقول على قول، في استدعاء لنظرية المؤامرة واستكانة إلى إشراقات ماضٍ غابر، واستغلال سياسي وتدبير سلطوي.

لقد تأكد أننا شعوب على هامش البحث العلمي والتقانة الفائقة، نداوي الجرح النرجسي العميق بتضخُّم وهمي للأنا، وذلك عندما نردّد في المقاهي أن الباحث "السلاوي" الذي عيّنه ترامب لإنتاج اللقاح، هو عربي من أصل مغربي.

غير ذلك فإننا منهزمون داخلياً وخارجياً، ولا يمكن أن ننكر أننا لم نقدّم شيئا للعالم، وهو يبحث عن لقاح لمواجهة الفيروس.

كنا وما زلنا نستهلك ولا ننتج إلا مزيداً من الانهزامية والاستبياع والاستقالة، فقد نجحت الأنظمة في تحويلنا إلى"كائنات ذات بعد واحد"، هو بالضبط البعد الانهزامي، تضعيفاً وتوكيداً للبعد الاستهلاكي الذي تحدث عنه هربرت ماركيوز يوما.

يبدو أن نكسة 67 من القرن الفائت، ما زالت تُلقي بظلالها على أجيال القرن الحالي، فلم نحارب أصلاً، ولم ننتصر أصلاً، لا في حرب 73، ولا في غيرها من المعارك السياسية والتنموية والاقتصادية، كل ما راكمناه، هو المزيد من التخلف والتبعية والتطبيع والتناحر العربي-العربي، وها الجائحة اليوم، تؤكّد أننا شعوب تعيش عالة على الإنسانية، أو بالأحرى أُريدَ لها من طرف صُنَّاع قرارها أن تكون كذلك.

المؤكَّد أنه لا تُعوِزنا الإمكانيات، ولا الكفاءات، ولا الشروط السوسيوتاريخية، لنكون أمة فاعلة في الشرط الإنساني العامّ، ولكن أنظمتنا حوّلَت الأوطان إلى بيئات طاردة للنجاح، منتجة للانهزامية واليأس والقنوط.

ألم يقُل العلّامة المصري أحمد زويل الفائز بجائزة نوبل للفيزياء، إن الفرق بين الهنا والهناك، هو أنهم يدعمون الفاشل حتى يصير ناجحاً، ونحن نحارب الناجح حتى يغدو فاشلاً؟ بل إننا نصنع من الفشلة قادة ومؤثرين وصناع محتوى، وبذلك نزرع بذور الانهزامية حتى في أكثر الناس إيماناً وانتصاراً للأمل في التغيير.

ختاما نقول إن إعادة الضبط التي يحتاج إليها العالم العربي اليوم، لأجل تنشيط الاقتصاد وترميم شروخ المجتمع، لن تكون ذات فاعلية وجدوائية، ما لم تنطلق من أساس المشكلة، وهي آفة الانهزامية التي تفتك بأحلام الجميع في بناء أوطان ديمقراطية من البحر إلى البحر. فالمواطن العربي وصل إلى حالة قصوى من الإحباط واليأس من احتمال التغيير، لهذا تراه مستقيلاً غير آبه بما يجري من حوله ويُفصَّل له، فلا تراه منخرطاً في الحزب والنقابة والجمعية، ولا مدافعاً حتى عن حقّه في العيش الكريم، مكتفياً بالحوقلة والحسبنة، أو غارقاً في تفاهات السوشيال ميديا، يحارب طواحين الهواء ويُهدِر الزمن الضائع.

لا سبيل إذاً لتغيير الواقع سوى العمل على تجفيف منابع الانهزامية، ببناء الثقة بين الدولة والمواطن، واحترام الحقوق والواجبات، وتحويل الأوطان من مقابر للكفاءات إلى بيئات حاضنة للنجاحات، تستثمر في البشر لا الحجر. حينها يمكن أن يتحقق العبور الآمن، ويمكن أن نصيح عالياً: "لقد حاربنا، لقد عبرنا"، غير ذلك لا نعمل إلا على الكذب على الذات بأننا انتصرنا ونحن المهزومون أصلاً، من الداخل والخارج.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي