وفيما تتواصل التكهنات حول شكل وطبيعة الحكومة الجديدة في البلاد، تبرز تساؤلات حول طبيعة سياستها تجاه بعض الفاعلين المهمين في الشأن الليبي، خصوصاً تركيا.
وبغض النظر عن أي شكل ستتخذه العلاقات بين تركيا وليبيا في المستقبل، فإن أنقرة لن تتنازل عن وجودها في شرق البحر المتوسط وحقوقها هناك، حيث يعتمد شكل هذا الوجود بدرجة كبيرة على الاتفاقية البحرية الموقعة بين أنقرة وطرابلس.
إن خرائط الاتحاد الأوروبي المتغيرة باستمرار بشأن الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة في شرق المتوسط تهدف إلى حشر تركيا في مساحة ضيقة لا تتناسب مع حجم شواطئها وثقلها الاستراتيجي. إلى جانب ذلك فإن الاتحاد الأوروبي لا يرغب في أن تكون أنقرة صاحبة كلمة وقرار بشأن عمليات الطاقة التي تجري في هذه المنطقة الغنية بالنفط والغاز الطبيعي.
في هذا السياق وقّعت تركيا وليبيا في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وصدّقَت الأمم المتحدة على هذه الاتفاقية في 30 سبتمبر/أيلول 2020. وقد أثارت الاتفاقية، التي وقّعتها أنقرة مع حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها دولياً، ردود فعل من قبل أطراف عديدة، لا سيما دول الاتحاد الأوروبي. وكانت الاتفاقية مؤشراً إلى أن تركيا التي تمتلك أطول سواحل في شرق المتوسط ستلعب دوراً فعَّالاً في مجريات الأحداث بهذه المنطقة. ومن الجدير بالذكر أن أنقرة تتبع سياسة متعددة المستويات لتحقيق هذا الهدف.
في البداية، وعند تسليط الضوء على وجودها في ليبيا، يتبيَّن أن تركيا هي دولة تؤسِّس السلام في ذلك البلد عبر دعمها حكومة الوفاق الوطني الشرعية المعترَف بها من قبل الأمم المتحدة، فيما يثير هذا الدعم ردود فعل عديدة من قبل بعض الدول الغربية مثل فرنسا التي تعتبره أمراً خاطئاً، وتدعم في المقابل "اللواء المتقاعد" خليفة حفتر.
وكما هو معروف، فإن السلطة في ليبيا منقسمة منذ مدة طويلة بين حكومة الوفاق الوطني المعترَف بها دوليّاً من جهة، وخليفة حفتر، الذي تمرد على الحكومة وانقلب عليها، وأطلق حملة عسكرية للسيطرة على البلاد. وزاد حفتر ضغطه على العاصمة طرابلس مقر حكومة الوفاق في عام 2019. وكان سير المواجهات يتقدم لصالح حفتر في ظلّ الدعم الذي يتلقاه وغياب ظروف متساوية في المواجهة بين الجانبين.
غير أن المساعدة التركية في ليبيا لصالح الحكومة الشرعية في طرابلس غيّرت مسار الأحداث، وجلبت نوعاً من التوازن إلى ظروف الصراع. وشكّل ذلك فرصة لتجاوز حالة الاختناق التي خيمت على العملية السياسية في البلاد. وبينما لم يتوافر مبرِّر شرعي لوجود الجهات الفاعلة الأخرى في ليبيا، باتت تركيا تقدّم دعماً عسكرياً للبلاد يحظى بشرعية عبر الاستجابة لطلب حكومة الوفاق الوطني المعترَف بها دولياً.
فحكومة الوفاق طلبت الدعم التركي لحماية طرابلس والوقوف في وجه الانقلاب، بعد أن كثّف الجنرال حفتر وقواته هجماتهم على العاصمة، ولم تغضّ تركيا الطرف عن هذه الدعوة واستجابت لها على الفور عسكرياً ولوجستياً.
وبفضل الدعم التركي استُبدل بالصراعات الدائرة في ليبيا بلا حسم منذ سنوات، والتي لطالما هددت الحكومة، أفكار وقف إطلاق النار وإعادة إحياء عملية الانتخابات.
وهذه الاستجابة ليست مستغرَبة إذا ما وُضعت في سياق العلاقة التاريخية التي تربط تركيا وليبيا. فالبلدان يتمتعان بتاريخ يعود إلى أكثر من 500 عام، لذا فإنه ليس وضعاً جديداً بالنسبة إليهما أن يدعم كل منهما الآخر في الظروف الحرجة والصعبة. وعلى هذا النحو يتضح أن تركيا على صعيد الوجود والدعم والأنشطة في ليبيا تختلف تماماً عن الجهات الفاعلة الأخرى في البلاد.
وفي النهاية حظيت ليبيا باستقرار نسبي مكّنها من اتخاذ قرار نحو إجراء الانتخابات التشريعية، وسعت لإزالة العقبات أمام تقدُّم العملية السياسة. ولا يمكن إنكار أو تجاهل دور تركيا في الوصول إلى هذه المرحلة.
وتدافع تركيا عن سيادة ليبيا واستقلالها ووحدة أراضيها، وقد أظهرت عبر الاستجابة لنداء الحكومة الليبية أنها لا تقبل التهديدات التي تفرضها الهجمات والصراعات العسكرية على سيادة ووحدة البلاد.
وكما ذكرنا، فإن ليبيا قررت التوجه إلى الانتخابات وهي تتخذ الإجراءات اللازمة لتحقيق ذلك في أسرع وقت ممكن. وفي بداية ذلك منح مجلس النواب الليبي الثقة لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، الذي بدوره اتخذ خطوات مهمَّة لتمهيد الوضع لعقد الانتخابات وحماية سيادة البلاد ووحدة أراضيها. ولا شك أن استمرار العملية السياسية وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمساعدة تركيا في ليبيا ودعمها لها كقوة ضامنة.
كما تجدر الإشارة إلى أن حوار تركيا مع ليبيا واسع النطاق في الوقت الراهن، وهي تعتمد سياسة الباب المفتوح مع جميع الأطراف الليبية، وهو الأمر الذي سيضمن استمرار التواصل مع النظام الجديد الذي سيُنشأ بعد الانتخابات، إذ من المرجح أن تستمر العلاقات بين البلدين في التطور والازدهار على أساس الصداقة والتعاون.
فتركيا تاريخياً دولة تفضِّل دائماً تطوير العلاقات، وتعزيز التواصل الإيجابي عبر الاتفاقات والعقود المتبادلة، وتُقدِم على خطوات وفعاليات متنوعة وفقاً لذلك. لذا من المستبعد حدوث أي انقطاع أو توقُّف في مستقبل العلاقات مع ليبيا.
ومع ذلك فإن تغير الحكومة الليبية أو أي سيناريو سيطرأ على العلاقات مع هذه الحكومة لن ينعكس أبداً على انسحاب تركيا الكامل أو الجزئي من شرق المتوسط أو التنازل عن حقوقها هناك. فتركيا لاعب محوري في شرق المتوسط ولا يُتوقع منها أن تبقى غير مبالية بالتطورات في المنطقة.
كما أن الحفاظ على السلام في المنطقة هو أيضاً عامل رئيسي يجعل الوجود التركي أمراً ضرورياً. لذا، لا ينبغي النظر إلى شرق المتوسط على أنها مجرد منطقة ستوفّر مكاسب كبيرة من موارد الطاقة، بل هي مهمة في استقرار المنطقة. فجميع الأنشطة والمبادرات التي ستنفذ بهذه المنطقة من شأنها التأثير على المدى الطويل في شعوب كبيرة، نظراً إلى اتساع المنطقة وشمولها دولاً عديدة. وإدراكاً منها لكل هذه الأمور، تتخذ تركيا خطوات نحو حماية السلام والازدهار والتعاون بالمنطقة عبر الدعم الذي تقدمه والاتفاقات التي أبرمتها حول شرق المتوسط.
وفي هذا الإطار فإن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا هي اتفاقية مهمة للغاية في المقام الأول من حيث حماية تركيا لحدودها وحقوقها، كما أنها تهدف في الوقت ذاته إلى الحفاظ على السلام والهدوء في المنطقة بأكملها. أما اعتراض دول عديدة وفي مقدمتها اليونان على الاتفاقية ومطالبتها بإلغائها، فإنه يبقى أمراً لا يرتقي إلى مستوى التوقعات الحقيقية والمنطقية.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.