تابعنا
القراءة الواقعية تشير إلى أن واشنطن وجولات بلينكن التي لم يظهر فيها أي ضغط حقيقي على حكومة نتنياهو، لم تؤدِّ إلا إلى شيئين، أولهما إعطاء الاحتلال مزيداً من الوقت، والثاني مزيد من تقوية نتنياهو، حتى لو لم تُرِد إدارة بايدن الأمر الثاني

في آخر عشرة أيام من شهر مارس/آذار الماضي أظهرت الولايات المتحدة موقفين يبدوان في الظاهر متناقضَين، أولهما جولة وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى المنطقة بهدف تعزيز التهدئة وفق التصريحات المعلنة، أما الموقف الثاني الذي يناقض الموقف الأول فهو إجازة الولايات المتحدة إرسال صفقات أسلحة لدولة الاحتلال الإسرائيلي بمليارات الدولارات.

بينما لم تجف بعدُ آثار أقدام بلينكن من جولته السادسة إلى المنطقة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 التي شملت السعودية ومصر، تلتها زيارة إلى دولة الاحتلال ولقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أشار مسؤولون في وزارة الدفاع والخارجية الأمريكية إلى أن حزم أسلحة جديدة تشمل أكثر من 1800 قنبلة من طراز إم كيه 84 تزن ألفَي رطل، و500 قنبلة من طراز إم كيه 82 تزن 500 رطل، قد وافقت الإدارة الأمريكية على إرسالها إلى إسرائيل من دون عرضها على الكونغرس، فيما وافقت الإدارة أيضاً على نقل 25 طائرة ومحركات من طراز إف 35 بقيمة 2.5 مليار دولار.

الموقف الحقيقي

وقُبيل الإعلان عن هذه الصفقة التي تأتي في ظل مواجهة الاحتلال انتقادات دولية بسبب قصف المدنيين في قطاع غزة، وفي ظل دعوة أعضاء من الحزب الديمقراطي بقطع المساعدات عن الاحتلال، ورغم أن الهدف المعلن لزيارة بلينكن هو تعزيز جهود التهدئة والسعي للتوصل إلى هدنة، فإن سقف المأمول من الموقف الأمريكي كان متدنياً، حتى مع بوادر وجود ضغط أمريكي أكبر على نتنياهو، فلم تكن هناك أي مقاربة واضحة قدمها بلينكن بشأن الوضع في غزة، لذلك لم يتوقع أحد أن تحدث الجولة الجديدة اختراقات رغم العبارات المنمقة.

وبينما سُبقت زيارة وزير الخارجية الأمريكي بنحو 100 صفقة سلاح تسلمتها إسرائيل من الولايات المتحدة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بدت جولة بلينكن أيضاً امتداداً لمحاولات التغطية على الموقف الحقيقي الداعم لدولة الاحتلال، مع سعي النأي بالنفس عن التبعات السلبية لذلك على المستويين الداخلي والخارجي.

ولكن مع ذلك لم تصمد الستائر التي حاول بلينكن من خلالها تغطية حقيقة الموقف الأمريكي حتى جاءت حزمة الأسلحة والذخائر الجديدة لتقطع الشك باليقين حول حقيقة الموقف الأمريكي.

ولعل المتابع للشأن الأمريكي الداخلي ولتصريحات مسؤولين في مجلس الشيوخ وحتى من الحزب الديمقراطي يجد أن هناك دفعاً باتجاه إنهاء هذه الأزمة في الشق الإنساني ومطالبات من آخرين بوضع شروط على الدعم الأمريكي لإسرائيل، وهو ما يجعل الإدارة تلجأ -على الأقل- إلى خطاب يبرزها كأنها غير شريكة في العدوان الإسرائيلي على غزة.

وبالتالي يتضح أن واشنطن على مستوى السلوك لم تتراجع عن التفوق الأمني والعسكري لدولة الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى فإنها لو أرادت ضغطاً حقيقياً وكبيراً على حكومة نتنياهو لكانت فعلت الضغط في ما يتعلق بصفقات الأسلحة.

وحتى على مستوى الخطاب لو دُقق بشكل عميق فإنه ما زال يراعي المصالح الإسرائيلية بشكل فج، إذ اجتر بلينكن عبارات من قبيل تأكيد التزام الولايات المتحدة تحقيق نهاية دائمة للأزمة في غزة، وإقامة دولة فلسطينية مستقبلية بضمانات أمنية لإسرائيل، لكن عند التدقيق والتركيز في هذه المقولات نجد أنها تعني بالضرورة عدم دعم أي دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة لأن الضمانات الأمنية التي تريدها دولة الاحتلال الإسرائيلي تقتضي ذلك.

عملية رفح والمفاوضات

هذه المرة جاءت جولة بلينكن بُعيد إعلان نتنياهو عن أن جيش الاحتلال يستعدّ لبدء عملية عسكرية برية في رفح التي تضم أكثر من مليون نازح، سواء لاستخدام ذلك كتفاوض تحت النار أو لتدمير ما تبقى من قدرات المقاومة، وقد صدّق نتنياهو على خطط هذه العملية العسكرية.

وحتى في ما يتعلق برفح فإن واشنطن لا ترفض عملية عسكرية في رفح على إطلاقها، لكنها تريد أن تقول للرأي العام أولاً إنها ليست شريكة فيها، وثانيا إنها تضغط على حكومة نتنياهو لمراعاة الظروف الإنسانية التي ترفضها إدارة بايدن بشكل علني، وترى أنه لا بد أن يكون هناك ترتيبات معينة تقوم بها دولة الاحتلال لنقل النازحين من رفح إلى أماكن أخرى قبل الانقضاض على المدينة، وهو الأمر الذي يحتاج إلى إطالة أمد الحرب، وهو الأمر الذي تحاول الولايات المتحدة تجنبه.

وفي خطوة متناغمة بين واشنطن وتل أبيب اللتين لا يوجد ما يؤكد أنهما تريدان وقف الحرب، فقد أرسلت تل أبيب -قبل قدوم بلينكن- رئيس الموساد إلى الدوحة لاستكمال المباحثات والتفاوض بشأن وقف القتال، ولكن في غضون جولة بلينكن وبُعيدها تعقدت المفاوضات في الدوحة وربما تعثرت بعد إضافة الاحتلال الإسرائيلي شروطاً وتعقيدات جديدة في ما يتعلق بالأسرى الفلسطينين المراد إطلاق سراحهم، وكذلك أضافت ترتيبات جديدة حول عودة النازحين إلى شمال غزة، وأضفت غموضاً حول التفاصيل من أجل أن تتيح لنفسها استباحة مناطق القطاع في الوقت الذي تريده.

مع كل جولة من جولات بلينكن يتأكد للمتابع أن واشنطن تمنح حكومة نتنياهو والجيش الاسرائيلي مزيداً من الوقت والدعم السياسي وأيضاً العسكري لكي تستكمل تحقيق أهدافها في ظل مرور 179 يوماً على العدوان الإسرائيلي وعدم تمكن الاحتلال من تحقيق أهدافه سواء السياسية أو العسكرية منها المتعلقة بتحرير المحتجزين بالقوة أو القضاء التام على البنية العسكرية للمقاومة الفلسطينية في غزة.

ماذا حققت الجولة؟

لذلك فإن القراءة الواقعية تشير إلى أن واشنطن وجولات بلينكن التي لم يظهر فيها أي ضغط حقيقي على حكومة نتنياهو، لم تؤدِّ إلا إلى شيئين، أولهما إعطاء الاحتلال مزيداً من الوقت، والثاني مزيد من تقوية نتنياهو، حتى لو لم تُرِد إدارة بايدن الأمر الثاني.

من جانب آخر فإن المحطات الأخرى لجولة بلينكن سواء في هذه الجولة أو الجولات الماضية تحمل في طياتها أيضاً ضغطاً أمريكياً على العواصم الإقليمية لجعل حراكها لا يخرج عن المسارات الأمريكية، إضافة إلى الدور الأمريكي المتمثل في العمل على وقف حالة الضغط التي تمثلها جماعة الحوثيين في اليمن عبر استهدافهم للسفن الإسرائيلية أو سفن الدول الداعمة للاحتلال التي تمرّ عبر البحر الأحمر. وقد كان بلينكن أشار إلى هذا الملف في هذه الجولة خلال زيارته للسعودية.

إنّ جولة بلينكن الحالية لم تحقق أي شيء يُذكر بخصوص وقف الحرب، بل وضعت شكوكاً إضافية كبيرة حول صدق نيات الولايات المتحدة، خصوصاً مع إتباعها بصفقة أسلحة كبيرة لإسرائيل في الوقت الذي رُوّج فيه أن واشنطن تكثف ضغطها على حكومة نتنياهو.

وقد ذكر بعض المسؤولين الأمريكان لقناة الجزيرة أن بلينكن قد قال لنتنياهو خلال زيارته الأخيرة إنه إذا شنَّت إسرائيل أي عملية عسكرية في مدينة رفح خلال المفاوضات الجارية فإنَّ ذلك سيكون له تبعات على الدعم الأمريكي لإسرائيل، ولكن في الحقيقة هذا ليس دقيقاً، وقد جاء مثل هذا التصريح في إطار سياق عام وليس مبنياً على خطوات حقيقية. ولعل المجال الوحيد الذي يمكن أن تضغط فيه واشنطن هو دعم مرشح منافس لنتنياهو على رئاسة الوزراء، وحتى هذا الشخص يمكن أن يكون من حزب الليكود وليس حتى من أحزاب معارضة.

إنّ جولة وزير الخارجية الأمريكي تهدف إلى عرض صورة للرأي العام الأمريكي أن الولايات المتحدة مهتمة بوقف الحرب، وهو ما فشلت فيه 6 جولات لبلينكن، أمَّا صفقات الأسلحة التي تجاوزت 100 صفقة فهي الدليل العملي على أن الولايات المتحدة تزيد عمر هذا العدوان الذي لم يسبق له مثيل.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً