تابعنا
ما نستطيع قوله اليوم بعد دراسة حالة مخيم جنين الفريدة هو أنّ إسرائيل اليوم لم تعُد ذلك البعبع الذي يخشاه الفلسطينيون، ولم تعُد في أذهانهم القوة التي لا تُقهَر.

على مدى أكثر من عشرين عاماً، كان مخيم جنين أحد أكثر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين ذكراً بين المخيمات في السرديات التي ارتبطت في أذهان الفلسطينيين بمقاومة الاحتلال.

وللحق، فإنّ هذا ما كان عليه الحال دائماً في مدينة جنين التي ارتبطت على مدار التاريخ بفكرة مقاومة الاحتلال والصمود في وجهه، لا اليوم فقط، ولا يتعلق ذلك بالاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل كان ذلك مبكراً على مدى مئات السنين.

تحمل جنين في طيات تاريخها فكرة مقاومة الغزو المغولي الذي انتهى على أطراف المدينة قبل أكثر من سبعة قرون، فمعركة عين جالوت التاريخية التي حدثت عام 1260، كان ميدانها بين قريتي نُورِس وزرعين التابعتين لقضاء مدينة جنين، حيث انتصر المسلمون المماليك بقيادة المظفر قطز على جيش المغول بقيادة كتبغا، وحطّموا أسطورة الجيش المغولي الذي لا يُقهر، فارتبطت تلك المعركة والمنطقة بفكرة تحقيق المستحيل وتحطيم الأساطير التي بناها الغُزاة.

وينطبق الأمر ذاته على حركة الشيخ عز الدين القسام الذي اصطدم بالقوات البريطانية في أحراش قرية يعبد التابعة لمدينة جنين عام 1935، واستشهد مع عددٍ من أفراد مجموعته في تلك المعركة التي استمرت ست ساعات، مما أطلق شرارة الثورة الفلسطينية الكبرى، والتي خُلّدت في التاريخ الشعبي الفلسطيني الحديث أكبر ثورةٍ معاصرةٍ ضدّ الانتداب البريطاني.

أمّا مخيم جنين الذي يشغل مساحةً لا تزيد على 0.42 كيلومتر مربع، فقد ارتبط في تاريخ القضية الفلسطينية بألم النكبة واللجوء إلى عددٍ كبيرٍ من أبناء القرى الشمالية المحيطة بالمدينة وبعض القرى التابعة لحيفا، الذين اتخذوا هذا المخيم عام 1953مأوىً مؤقتاً لهم.

وما زالوا يسكنون المخيم منذ أكثر من 70 عاماً، إذ يبلغ عدد سكانه نحو 14 ألف نسمةً، وفي الوقت نفسه، فإنّ النَّفَس الثوري الذي تمتعت به جنين على مرّ التاريخ الوسيط والحديث انسحب على مخيمها. فرغم أنّ المخيم لم يكُن له نشاط كبير خاص به خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى في مقابل مخيم بلاطة في نابلس ومخيم الأمعري في رام الله وغيرهما فإنّ الانتفاضة الثانية حملت لمخيم جنين سمعةً شعبيةً ودوليةً خلال معركة مخيم جنين الشهيرة في أبريل/نيسان عام 2002.

وصمد المخيم أمام اجتياحٍ واسعٍ نفذته قوات الاحتلال بأمرٍ من رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون، واستمرّ عشرة أيام، راح ضحيتها مئات الفلسطينيين، وقُتل عشرات الجنود الإسرائيليين، وكانت إحدى الصور التي اشتهرت في ذلك الوقت لعددٍ من قيادات المقاومين في مخيم جنين في أثناء تناولهم العشاء خلال الاجتياح دخلت التاريخ الفلسطيني الحديث باسم (العشاء الأخير)، إذ استشهد لاحقاً كل من ظهر في الصورة.

ومنذ ذلك الوقت أصبح لمدينة جنين ومخيمها رمزيتهما الخاصة المرتبطة بالعناد والمقاومة أكثر من غيرها من مناطق الضفة الغربية، ليصبح اسم (كتيبة جنين) الذي سُميَت به فصائل فلسطينية مقاوِمة في المخيم، رمزاً للتمرّد على مسار السلطة الفلسطينية الرافض للصدام المسلّح مع الاحتلال، ورمزاً لمعانٍ كثيرةٍ افتقدتها الضفة الغربية اليوم بعد نهاية الانتفاضة الثانية وإضعاف حركات المقاومة المسلحة فيها بعد أحداث غزة 2006، التي أدّت إلى سيطرة حركة حماس على غزة ودخول الشعب الفلسطيني في ثنائية فتح-حماس التي تمحورت إلى حدٍّ كبير في ثنائية الضفة-غزة، وارتبط فيها اسم الضفة الغربية بمشروع السلطة الفلسطينية القائمة على حركة فتح، واسم قطاع غزة بمشروع المقاومة المسلحة التي تمثل حركة حماس عصبها الرئيس.

ويمثل مخيم جنين اليوم محاولة فلسفة المقاومة المسلحة إعادة فرض نفسها في الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية، ولذلك فإنّ العملية الإسرائيلية الأخيرة المسماة (بيت وحديقة) كانت في الحقيقة تستهدف هذا التوجه الذي يمثله المخيم، وهو ما يمكن ترجمته من خلال إعلانات مسؤولي حكومة نتنياهو المستمرة خلال العملية بأنّ الهدف منها هو "استعادة الردع" وضرب البنية التحتية لفصائل المقاومة في الضفة الغربية.

لذلك كلّه، فليس من الغريب أن يكون مشهد إعادة اللجوء الفلسطيني خارج المخيم مشهداً مقصوداً بذاته من الحكومة الإسرائيلية، فكانت تل أبيب تريد بذلك إرسال رسائل تحذير إلى المجتمع الفلسطيني بأنّ مسار المقاومة الذي يمثله مخيم جنين وكتيبة جنين سيؤدّي بهم إلى "نكبة ثانية"، كما هدّد عدد من أقطاب اليمين المتطرف الإسرائيلي.

وللمفارقة، فهذا الخطاب مشابه للذي كان يتبناه باستمرارٍ الوزير الإسرائيلي المتطرف رحبعام زئيفي، والذي أدّى في نهاية المطاف إلى اغتياله في عمليةٍ نفذتها منظمة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في أكتوبر/تشرين الأول عام 2001، رداً على اغتيال أمينها العام أبو علي مصطفى في وقت سابق من العام نفسه.

هذا الخطاب التحريضي لليمين المتطرف الإسرائيلي هو ما ميّز الحملات الأخيرة على مخيم جنين، وهو ما حاولت الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية إرساله رسالة تهديدية شديدة اللهجة للفلسطينيين: "المقاومة مقابل التهجير"، هذه المعادلة تحاول إسرائيل تثبيتها في الذهن الفلسطيني.

لكن الواقع يقول غير ذلك، إذ وصلت الرسالة إلى الفلسطينيين الذين يعتبرون جنين مدينةً ومخيماً رمزاً للعناد والتحدّي، لكن أثرها كان عكسياً فيهم فبدلاً من التراجع والتخوّف من نكبةٍ جديدة، وجدنا الإعلام الشعبي في جنين يعلن رفضه الخروج من المخيم، ويبيّن أنّ من غادر المخيم مؤقتاً اضطر إلى ذلك لأنّه كان على أطرافِه لا في قلبه، ورأيناه يعود بمجرّد انتهاء العملية الإسرائيلية.

وللمفارقة، انتشرت في الإعلام الرقمي ورقة تركها أحد سكان المخيم للمقاومين قبل أن يغادر منزله، يعلّمهم فيها بإمكانية الاستفادة من كل شيء داخل المنزل، ويخبرهم بوجود مبلغ مالي تركه لهم في الثلاجة، فهذه الورقة ضربت الرسالة الإسرائيلية للمخيم، وأظهرت أنّ كل الجهود التي بذلها الاحتلال على مدى السنوات الماضية لإخضاع مخيم جنين وكسر صورته التي تشكلت في الذهنية الفلسطينية ضاعت أدراج الرياح.

ما نستطيع قوله اليوم بعد دراسة حالة مخيم جنين الفريدة هو أنّ إسرائيل اليوم لم تعُد ذلك البعبع الذي يخشاه الفلسطينيون، ولم تعُد في أذهانهم القوة التي لا تُقهَر، ولذلك فإنّ استدعاء صمود قرية يعبد ونجاح معركة عين جالوت اليوم في الذهن الفلسطيني، سيكون أقوى في توجيه الردّ الفلسطيني على محاولات الاحتلال الإسرائيلي إخضاع هذه المنطقة.

وفي الغالب أنّ هذا التوجه سيصبح في الفترة القادمة نبراساً للمناطق الفلسطينية الأخرى ومثالاً يمكنها تبنيه، وهذا ما سيعقِّد مهمة إسرائيل والقِوى المتحالفة معها في إخضاع الضفة الغربية أو جرّها خارج مربع المواجهة، إن لم يجعلها مستحيلةً تماماً.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي