الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أثناء حضوره القمة التركية-الإفريقية (AA)
تابعنا

فقد ارتفع معدل النمو الاقتصادي من أقل من 1% ما قبل حقبة العدالة والتنمية إلى نسبة سنوية متوسطة بلغت 9% للأعوام ما بعد 2002م. وزادت صادرات البلاد من 36 مليار دولار إلى 170 مليار دولار في العام 2020م، والمتوقع للعام الجاري 212 مليار دولار. أيضاً ارتفعت الاستثمارات من 70 مليار ليرة إلى 1.4 تريليون ليرة.

نهوض اقتصادي في ظل القطبية الأحادية

وقد انعكس كل ذلك في رقي وتطور الحياة الاجتماعية في البلاد، حيث ازدادت أعداد المدارس والجامعات واتسعت مواعين الخدمات الصحية والاجتماعية وامتدت شبكات الاتصالات والطرق البرية والسكك الحديدية والمترو. كما غدا الناقل الجوي الوطني "الخطوط التركية" من أفضل خطوط الطيران العالمية وأكثرها التزاماً بمعايير الأمن والسلامة، وازدادت أعداد المطارات بالبلاد، وتبوّأ مطار إسطنبول الجديد موقعا رائدا في صدارة المطارات العالمية، وتميز بأداء رائع خلال الجائحة، كما صارت إسطنبول نقطة التقاء للمسافرين عبر القارات.

تكمن المفارقة بين تركيا وغيرها من الدول هنا، في أن الحكومات التي تعاقبت على البلاد منذ أواسط القرن الماضي لم تستفد من هامش المناورة الذي كانت تتيحه الثنائية القطبية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية في المضي قدماً بالبلاد في طريق النهضة والحداثة، رغم الالتزام الصارم للنظام الجمهوري بالعلمانية منهجاً لإدارة البلاد في كل شئونها، والرغبة التي كانت سائدة في تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي.

على الجهة المقابلة جاء تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في البلاد في وقت يرزح فيه العالم تحت وطأة نظام عالمي أحادي القطبية، يسعى بكل ما لديه للاحتواء والهيمنة على أي بلد يسعى للنهوض على هدى إرادة وطنية خالصة. ولكن الحزب تحت قيادة الرئيس أردوغان، رغم كل ذلك استطاع تحويل التحديات والصعاب التي كانت مسيطرة على المشهد إلى فرص هيأت لتركيا السير في طريق نهضة اقتصادية وثورة علمية وتقنية تكاد حالياً أن تضعها في مصاف أفضل عشرة اقتصادات في العالم.

نمو رغم الجائحة

ومما أدهش الكثير من المراقبين أن الاقتصاد التركي، رغم ما أصاب البلاد جراء الموجة الأولى لكورونا، استطاع أن يحقق نمواً موجباً في العام الماضي بلغ 1.8%. في حين أن معظم الاقتصادات العالمية قد جاءت معدلاتها سالبة. وتزيد الدهشة حول التعافي السريع لهذا الاقتصاد إذ بلغ معدل نموه خلال الربع الأول للعام الجاري 7.2% و7.21% للربع الثاني، بينما المتوقع له في نهاية العام هو 10%، في حين أن المؤسسات المالية الدولية كانت تضع له معدل 9% في أحسن الحالات، وهو أعلى معدل للنمو الاقتصادي منذ العام 1999م.

تعزيزاً لهذه النجاحات انتهجت الحكومة سياسة اقتصادية توسعية عمدت معها إلى حث البنوك على تخفيض أسعار الفائدة وزيادة معدلات الإقراض البنكي لتحفيز المنتجين وصولاً إلى زيادة الصادرات التي قال وزير التجارة التركي في تغريدة له: "إن الفضل في زيادة معدل النمو الاقتصادي يرجع نصفه إلى زيادة صادرات السلع والخدمات بنسبة 10.8% تُعد الأعلى منذ العام 1998م". كما صرَّح رئيس جمعية المصدرين الأتراك أن الخطة تقضي بأن تزيد صادرات البلاد إلى 300 مليار دولار سنوياً خلال الأعوام الخمسة القادمة. تنفيذاً لهذه السياسة أقرت الحكومة في سبتمبر/أيلول الماضي تخفيض سعر الفائدة من 19% ليستقر في حدود 14% في ديسمبر/كانون الأول الجاري.

لكن الليرة التركية بدأت هبوطاً سريعاً مقابل العملات الأجنبية، الأمر الذي لم يكن مبرراً بأي منطق علمي في ظل مؤشرات الأداء الاقتصادي الموجبة، خاصة في جبهة الصادرات التي وفَّرت للبلاد رصيداً جيداً من العملات الحرة.

إن التفسير الذي يمكن أن يميط اللثام عن هذه المفارقة هو ازدياد نشاط المضاربين الذين يحركهم بعض أصحاب رؤوس الأموال المعارضين المرتبطين بدوائر وجهات مناوئة لتركيا والمعارضين للسياسات الاقتصادية للرئيس أردوغان، خاصةً ما يلي توطين المشروعات الكبيرة وتشجيع أرباب الأموال والمستثمرين الأتراك والأجانب على حد سواء لوضع رؤوس أموالهم في مشروعات إنتاج السلع والخدمات ومشروعات البنى التحتية المصاحبة للمشروعات الإنتاجية، أكثر من إيداع تلك الأموال في البنوك ليقترضها صغار المنتجين بفوائد مرتفعة تقلل فرص المنافسة العالمية لمنتجاتهم وتثقل كاهلهم بالديون.

والأهم من ذلك أن إحجام كبار المستثمرين عن ولوج البلاد من بوابة الاستثمار المباشر والاكتفاء بإيداع أموالهم في البنوك ليقترضها آخرون يحرم البلاد من أن تكون مركزاً مالياً واقتصادياً عالمياً، هي أهل له بما تملكه من موقع استراتيجي يتوسط قارات العالم ومكانة اقتصادية مرموقة ورأس مال بشري عماده العقل والابتكار والتصميم نحو بلوغ الغايات التي تعلي شأن البلاد.

كما أن هذه الودائع تكون عرضة للسحب بضغة زر، فيما تُعد مشروعات الاستثمار المباشر ثروة قومية مستدامة، وإن كان صاحبها أجنبي، لأنه سيأتي اليوم الذي تؤول فيه للبلد الذي اُنشئت فيه.

لذلك فإن الأمر سيكون أزمة عابرة تتجاوزها البلاد كما استطاعت تخطي الأزمة الاقتصادية في 2008م. وما الإجراءات التي اتخذتها الحكومة خلال الأيام الماضية من تشجيع وتحفيز لأصحاب الودائع بالليرة التركية وفرض ضرائب على الإيداعات بالعملات الأجنبية إلا نذر يسير مما يمكن أن تقوم به لمواجهة هذه الهجمة التي يمكن وصفها بأنها اقتصادية الآليات سياسية المقاصد تهدف إلى احتواء تركيا وشغلها بهمومها الداخلية التي تجاوزتها من عقود رغم التحديات الكبيرة الماثلة في طريقها.

تحجيماً لدورها على الصعيدين الإقليمي والدولي. فقد أصبحت تركيا تلعب دوراً هاماً، سواء في مواجهة التحديات التي تقابلها في محيطها الاقليمي والجوار بسبب التطورات والأزمات في المنطقة، والتي جعلتها تتخذ خطوات للانتشار حماية لمصالحها والتي على رأسها أمنها القومي، ومقابلة التداعيات الاجتماعية والانسانية لعدم الاستقرار في المنطقة.

ربما كان السعي لتحجيم دور تركيا من بعض الفاعلين الدوليين من خلال افتعال أزمات اقتصادية تتناسل وتقود إلى اضطرابات سياسية، تؤدي إلى انتخابات مبكرة أو إرباك حسابات الانتخابات القادمة. إلا أن وعي القيادة التركية وإحاطتها بكل التحديات سيمكنها من تجاوز مثل هذه السيناريوهات.

ومهما يكن سيظل الاقتصاد تحديا ماثلا أمام القيادة التركية، ليس للمحافظة فقط على الانجازات التي تحققت وإنما للمضي قدما في المشروعات الطموحة التي شرعت فيها من قبل والتي أدت إلى حدوث هذه الطفرة الاقتصادية، خاصة في تطوير الصناعات الدفاعية والتي لم تؤدي للاكتفاء الذاتي بل عززت من الدور الخارجي لتركيا. نفس الأمر ينطبق على المشروعات الأخرى في مجال الطاقة والتقنيات الرقمية وخلافه. إضافة للأثر الإيجابي المتوقع على سعر صرف الليرة خلال الفترة القادمة بعد الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها تركيا.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً