الصورة الحقيقية والمزيفة للمعارض الروسي ليونيد فولكوف (صورة مأخوذة من الفيسبوك) (Others)
تابعنا

فهناك العشرات من المعارضين أمثاله، الذين تشابهت مصايرهم مع مصيره سواء تجاه الاعتقال، والتضييق، والنفي، أو حتى محاولات الاغتيال. أما في الغرب، فالمعارض الروسي للرئيس بوتين يحظى باهتمام كبير جداً، فهو يمثل أحد أبرز البدائل التي يراهن عليها الغرب للخلاص من كابوس بوتين، أو على أقلّ تقدير لممارسة الضغط على الأخير من أجل تليين مواقفه تجاه القارة العجوز.

لذلك لم يكن مستغرَباً أن يحظى نافالني بعناية طبية خاصة وفائقة في ألمانيا على أثر تعرُّضه لمحاولة اغتيال من قبل عملاء روس حاولوا تسميمه في إحدى رحلاته الجوية الداخلية. وقد انعكس هذه الاهتمام بشكل ملحوظ في التغطية الإعلامية، ومتابعة أخباره، والكتابة عنه، وحتى استدعاء كبير موظفيه من المنفى للحديث أمام العديد من المحافل الأوروبية.

هذه العناية الأوروبية، والاهتمام من قبل خصوم بوتين بأبرز معارضيه، لا شك أنها مصدر صداع وربما قلق لموسكو، ولكنها أيضاً مصدر للمعلومات، وطريق للخداع. فقد أورد بعض وسائل الإعلام مؤخراً تقارير قُرِئَت على نطاق واسع بأنها مدعاة للخوف والقلق، وتتعلق بقدرة عملاء روس على خداع الأوروبيين عبر تقنية الـDeep fake، من خلال إيهامهم بأنهم يتحدثون مع رئيس موظفي نافالني، في حين أنهم في الحقيقية كانوا يتحدثون إلى صورة رقمية مبرمجة وفق أنظمة الذكاء الصناعي لتحاكي الشخصية الحقيقية.

فقد خدعت موسكو العديد من البرلمانات الأوروبية مثل البرلمان الهولندي، والبريطاني، وبعض برلمانات دول البلطيق، عبر تقنية الـDeep fake، إذ اعتقدت لجان الشؤون الخارجية لهذه البرلمانات أنها تحدثت عبر الإنترنت إلى ليونيد فولكوف، وهو كبير موظفي نافالني، ليكتشفوا بعد ذلك أنهم يتحدثون إلى رسوم متحركة تم برمجتها عبر أنظمة الذكاء الصناعي.

وقد دار الحديث في هذه اللقاءات مع الشخصية المزيفة حول سياسة موسكو القمعية ضد المعارضين، وسياستها ضد أوكرانيا، والحرب الانفصالية الدائرة في شرق البلاد، فضلاً عن العقوبات الاقتصادية على روسيا جراء استخدامها الغازات السامة للتخلص من معارضيها، وهلم جرّاً. ولنا أن نتخيل كمّ المعلومات الاستخباراتية التي تم الحصول عليها من خلال هذه اللقاءات المزيفة، خصوصاً أن اكتشاف هذا التزييف قد أخذ وقتاً طويلاً سمح بأن يقع العديد من البرلمانات في الخطأ ذاته.

تفتح هذه الحادثة باب السؤال على مصراعيه حول القدرات الاستخباراتية التي سوف توفّرها أنظمة الذكاء الصناعي، وحجم الانتهاكات التي قد تترتب عليها سواء في ما يخصّ الأفراد أو الجماعات ككل. فالأمر لم يعُد يتعلق فقط بمحاولة تشويه الواقع، أو تضليل الحقائق كما هو جارٍ على مستوى واسع في منصات التواصل الاجتماعي، بل بتزييف الواقع، وخلق حقائق موازية، وهي خطة تُعَدّ أوسع من سابقتها بكثير وأكثر خطورة خصوصاً في ظل اعتمادنا المتزايد على أنظمة الذكاء الصناعي.

وإذا كنا في ظلّ حملات التضليل نسائل ما نقرأ، فمع تقنية الـDeep-fake سوف نسائل ما نرى، وإذا كان هذا التساؤل سيقودنا في النهاية إلى نقطة التشكيك في ما نرى، فإن هذا سوف يُعَدّ انقلاباً لمفاهيمنا الموضوعية كافة حول الحقيقة، فالحقيقة عندها ليست ما نرى، بل ما تريد الخوارزميات لنا أن نراه، إنها حقيقية مفروضة علينا وليست نابعة من ذواتنا كما عهدنا.

وفي وقت سابق كان مكتب التحقيقات الفيدرالي قد حذر بأن بعض اللاعبين الدوليين بات يلتجئ بشكل أكبر إلى المحتويات المعدلة عبر أنظمة الذكاء الصناعي من أجل التأثير في وعي الجماهير، والهندسة الاجتماعية، والهجمات الإلكترونية، وقد نصت وثيقة FBI التحذيرية على بعض الجهات كروسيا والصين، فالأخيرة استخدمت أنظمة الذكاء الصناعي لإنشاء صور الملف الشخصي للحسابات التي استخدمتها في حملتها المعروفة بـSpamouflage Dragon، لتبدو حقيقية، وتُعَدّ هذه الحملة إحدى الحملات التي مارست فيها الحكومة الصينية البروباغندا للتأثير في آراء الجمهور.

بطبيعة الحال الأمر لا يحدث في عالم السياسية والاستخبارات وحسب، بل أيضاً في عوالم أخرى، خذ على سبيل المثال ما يمكن أن تتعرض له النساء من تحرش وانتهاك وابتزاز عبر أنظمة الـDeep Fake هذه. والأمر لم يعد خيالاً، بل واقع سجّلت العديد من وسائل الإعلام حدوثه، فصحيفة الواشنطن بوستنشرتقصة امرأة بالأربعين من عمرها قام مجموعة من المجهولين بتركيب وجهها على جسد امرأة أخرى تعمل في مجال الأفلام الإباحية. للوهلة الأولى يبدو المقطع الذي انتشر على نطاق واسع على الإنترنت حقيقياً، ولكن بعد التدقيق تَبيَّن أنه مزيف. لنا أن نتخيل حجم الضرر الذي يمكن أن يقع جراء الاستخدام الخبيث لهذه التقنيات بحق النساء وغيرهن من قطاعات المجتمع.

لذلك ليس مستغرَباً أن يلجأ بعض الكيانات السياسية والحكومات إلى محاولة سَنّ تشريعات لتنظيم عمل هذه الأنظمة الذكية قبل فوات الأوان. ومن هذه الكيانات الاتحاد الأوروبي الذي أقدم مؤخراً على سَنّ العديد من التشريعات التي من شأنها أن تسهم في تنظيم وضبط سوق الذكاء الصناعي بما يجعلها أكثر فاعلية في خدمة المجتمع والسوق، ويقلل مخاطره على الأفراد وخصوصياتهم الشخصية. ومن هذه التشريعات أن توضع على أي صورة معدلة أو منشأة عبر أنظمة الذكاء الصناعي علامة تدل على أن هذه الصورة معدلة رقمياً.

ما زال الطريق طويلاً حتى الوصول إلى بروتوكولات متفَق عليها بين الدول، وتُقِرُّها المحافل الدولية لتنظيم عمل أنظمة الذكاء الصناعي، ولكن يمكن البناء على ما أُحرِزَ حتى الآن من أجل تسريع الخطى، فالخطورة أن تبقى هذه التشريعات متخلفة من حيث السرعة، عن مواكبة التطور المتسارع في هذه التكنولوجيات، وهنا مكمن الخطر.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً