تابعنا
يمر البناء الديمقراطي في تونس بطور جديد يجعل الاستحقاق الاقتصادي والاجتماعي والمالي  في صدارة الاهتمامات والرهانات السياسية، لإنفاذ أجندات قديمة متجددة تصارع من منطلقات مختلفة في ظل رمال إقليمية ودولية متحركة وتطورات متسارعة وتحالفات متغيرة ومتقلبة.

لا يوجد اختلاف حول اعتبار ثورات الربيع العربي الحدث الأبرز في التاريخ الحديث للمنطقة بسبب ما حملته من مضامين وعبرت عنه من تطلعات وما أحدثته من تغيير. ولا اختلاف أيضاً حول الأهمية الاستراتيجية للمنطقة من منطلقات متعددة تاريخية وجيوسياسية واقتصادية.

وبالتالي تحظى تونس وثورتها بأهمية كبيرة ضمن هذه الأبعاد من حيث موقعها الجغرافي الذي جعلها موطن التقاء للحضارات وطبع شخصية مواطنيها بطابع الأصالة والمعاصرة والانفتاح، ومن حيث تقديمها لنموذج ثوري سلمي ديمقراطي.

كل هذه الاعتبارات وغيرها جعلت تونس في مرمى نيران الأطراف المتضررة من الثورة ومن الانتقال الديمقراطي، فتعددت محاولاتها حسب تطور الأوضاع الدولية والاقليمية والتوازنات الداخلية، والتي تتلخص في المرحلة الحالية على المستوى الدولي في وجود قطبية دولية غير مستقرة، الحرب الاقتصادية فيها على أشدها إلا أن الدور الأساسي فيها لا يزال للولايات المتحدة الأمريكية مع هامش تصرف للقوى الإقليمية. وكذلك في انكسار لموجة الشعبوية بذهاب ترمب وعودة الديمقراطيين.

أما على المستوى الإقليمي فإن المصالحة والبحث عن الاستقرار هو الطابع العام الخليجي-الخليجي والتركي-الخليجي، إضافة إلى السعي نحو الاستقرار في الساحة الليبية بإرادة دولية.

أما على المستوى الوطني فإن تطور الأوضاع محكوم بالتقاطعات بين الأجندات الدولية والإقليمية من جهة والأجندات الداخلية من جهة أخرى ويمكن اختزالها في ثلاث أجندات تتصارع وتتقاطع فيما بينها أحياناً، وأولها الأجندة الانقلابية التي لا تعترف بالثورة وتعتبرها مجرد مؤامرة على النظام السابق ولا تؤمن بالديمقراطية ولا بالدستور ولا تقبل بالتعايش السلمي والاحتكام للقانون ولنتائج الصندوق ويجتمع حولها التجمعيون الاستئصاليون ممثَّلين في الحزب الدستوري الحر وبقايا اليسار التجمعي وبعض مجموعات اليسار الفرنكفوني الذين لا تحرجهم الدعوة الصريحة للتراجع عن مكاسب الثورة وتجاوز القانون وممارسة العنف والدعوة لاستعمال الدولة كأداة للقمع.

وتتقاطع هذه الأجندة مع الأطراف الإقليمية المناهضة للربيع العربي والتي لا يزال جرحها المعنوي ينزف لفقدانها غطاءها الدولي.

أما ثانيها فهي الأجندة الشعبوية التي تصاعدت مع تصاعد الظاهرة عالمياً، هذا بالإضافة إلى فشل حكومات ما بعد الثورة في معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بما انعكس سلباً على مزاج الناخب ومكن من وصول شخصية مستقلة لرئاسة الدولة لا تؤمن بمخرجات الثورة، وعلى رأسها الديمقراطية التمثيلية والدستور والنظام السياسي، وتدعو إلى تعديلات جوهرية في منظومة الحكم تتحول بموجبها إلى منظومة رئاسوية مطلقة، ويجتمع حول هذه الأجندة أطراف تتقاطع و تنسجم مع رئيس الدولة وأهمها حركة الشعب والتيار الديمقراطي وبعض المجموعات غير المؤطرة .

أما الأجندة الثالثة فهي الأجندة الديمقراطية الملتزمة بالثورة وبمخرجاتها وبالدستور والقانون والتعايش السلمي، ومختلفة جزئياً في منهجية إدارة الحكم ومعالجة الملفات خاصة الاقتصادية منها والاجتماعية وتعديل منظومة الحكم كلياً نحو نظام رئاسي أو برلماني كامل او تعديل آلية إفرازها المتمثلة في القانون الانتخابي واستكمال بنائها فيما يتعلق بالمحكمة الدستورية. ويجتمع حول هذه الأجندة أطراف الائتلاف البرلماني والحكومي الذي يضم حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة وكتلة الإصلاح وتحيا تونس والكتلة الوطنية وأحزاب غير برلمانية، مثل الجمهوري والتكتل من أجل العمل والحريات والمنظمات الوطنية ممثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد التجارة والصناعة واتحاد الفلاحين وكثير من الشخصيات الدستورية الديمقراطية.

هذه الأجندات تتصارع في ظل أزمة سياسية خانقة عنوانها الصراع حول الصلاحيات بين رأسي السلطة التنفيذية رئيس الدولة ورئيس الحكومة رغم الوضوح الوارد في الدستور والذي لا يحقق فيما يبدو رغبة الرئيس في إنفاذ أجندته، خاصة في ظل غياب المحكمة الدستورية كجهة تحكيم وتحوله إلى خصم وحكم في الوقت نفسه في أكثر من مسألة،آخرها رفضه أداء الوزراء الذين صوّت عليهم البرلمان لليمين، وتمسكه بذلك غير آبه بكل مساعي الوساطة والحوار مشترطاً استقالة رئيس الحكومة في ظرف اقتصادي منذر بالانهيار بسبب الأزمة الهيكلية الموروثة عن النظام السابق، وضعف الاستقرار السياسي، وفشل كل حكومات ما بعد الثورة في إنجاز الإصلاحات الاقتصادية الضرورية لبناء منوال تنموي جديد، هذا إلى جانب انعكاسات الأزمة الصحية بسبب كوفيد 19.

مما جعل نسبة البطالة تصل الى 17,4% ونسبة النمو إلى -8,8 والعجز في الميزانية إلى 7 مليارات دينار مع تخفيض وكالة موديز الدولية للترقيم السيادي لتونس إلى درجة B3 وسلبيته في مستوى ثقة الشركاء الدوليين في البلاد.

وقد بات واضحاً أن الأجندة الانقلابية والأجندة الشعبوية اللتين تتقاطعان في مصدر الدعم الدولى والإقليمي المتربص بالديمقراطية والاستقرار وتراهنان على الانهيار المالي لصناعة حالة من الفوضى يقع تسويقها في صورة ثورة ثانية يجري بموجبها تقويض منظومة الحكم القائمة، ويبدو التعويل على هذا الرهان من خلال افتعال الأزمة السياسية وإطالة أمدها واستهداف النظام السياسي، وترذيل المنظومة الحزبية، وهو توجه يبدو معاكساً لما تهب به الرياح الإقليمية من مصالحات وبحث عن التوافقات، آخرها في سوريا ثم ما تهب به الرياح الدولية من رهانات في اعتبار تونس بوابة للساحة الليبية وإفريقيا لإحداث توازن مع الوجود الاقتصادي الصيني وما يتطلبه ذلك من استقرار.

إن قراءة تأليفية لهذه المعطيات يجعل البحث عن معالجة للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وخاصة وضع المالية العمومية أولوية قصوى مدخلها بالضرورة سياسي لاستعادة ثقة الشركاء الإقليميين والدوليين الداعمين للتجربة متمثلين في الجزائر وتركيا وقطر وأمريكا والاتحاد الأوروبي خاصة ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا .

ولن يكون ذلك إلا بالعمل على واجهتين، الأولى بدعم الاستقرار الحكومي لتتحول الحكومة الحالية إلى مخاطب كفء ماسك بزمام الأمور، والثانية بإطلاق الحوار الوطني دون شروط أو استثناءات تقوده المنظمات الاجتماعية أو بعض الشخصيات الوطنية حول إصلاح منظومة الحكم والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية ويمكن أن يفضي إلى توافقات تتوج بانتخابات تشريعية ورئاسية سابقة لأوانها بعد مراجعة القانون الانتخابي في اتجاه اعتماد نظام اقتراع يحقق استقرار مؤسسات الحكم واستكمال تشكيل المحكمة الدستورية.

تبدو حظوظ هذا التمشي وافرة بما تبذله حركة النهضة من جهود مع رئيس الحكومة و شركائها السياسيين والمنظمات الاجتماعية وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل كقوة توازن هذا إضافة إلى الجهود مع الشركاء الإقليميين والدوليين من أجل تجاوز الأزمة المالية والانطلاق في الإصلاحات الاقتصادية والاستفادة من التطورات الإيجابية في الملف الليبي في الاستثمار والتشغيل، إضافة إلى العمل على استعادة ثقة المواطن في الثورة والديمقراطية والشارع من خلال مسيرة 27 فبراير/شباط 2021 والتصدي للاعتداء على القانون وعلى الحقوق والحريات في علاقة بما اقترفه الحزب الدستوري الحر في حق جمعية فرع تونس لاتحاد علماء المسلمين.

إن صراع الأجندات يؤشر إلى أن التجربة التونسية لم تغادر مربع الانتقال الديمقراطي الذي يتواصل بالاعتماد على وعي التونسيين وقدرتهم على التمييز بين من يجتهد ضمن معادلات صعبة ومعقدة ومن يراهن على الفوضى والمجهول.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي