كتاب جمال الدين الأفغاني سيرة سياسية (Others)
تابعنا

كبر الفتى وتحولت اللعبة إلى حقيقة، وأصبح الأفغاني واحداً من المفكرين الجوالين، الذين تجاوز تأثيرهم حدود بلد إسلامي بعينه.

لذلك ما إن رأيت غلاف كتاب بعنوان "جمال الدين الأفغاني: سيرة سياسية" حتى تحمست لشرائه، وفرحت به وشعرت أنه سيكون رفقة مؤنسة مع هذه الشخصية القلقة التي حيرت الكثير من الباحثين واختلف فيها الناس.

بدأت نيكي.ر كيدي العمل على سيرة جمال الدين الأفغاني في صيف عام 1964، إذ كانت تدرس الثورة الدستورية الإيرانية (1905-1911)، وعثرت في أرشيف وزارة الخارجية البريطانية على ملف عن الأفغاني، وهكذا تحمست لدراسة تجربة الأفغاني، وتتبعت أثره في أرشيفات الأماكن التي عاش فيها مثل إسطنبول وباريس والهند والقاهرة، وقدّمَت لنا عملاً تحقيقيّاً واستقصائيّاً مفيداً ومثمراً، ليصدر الكتاب عام 1972 ويُترجَم إلى العربية في عام 2021، بترجمة مجاب الإمام ومعين الإمام وبجهد مميز من منتدى العلاقات العربية والدولية، الذي قدّم لجمهور القراء عديداً من سير المفكرين مثل شكيب أرسلان ومرمدوك بكثال.

كل هذه التفاصيل تتناولها الكاتبة بتفحص شديد وبمحاولات للفهم والنظر التاريخي. وتنبهنا في بداية الكتاب للحذر من السيرة التي قدمها محمد عبده وجورجي زيدان عن الأفغاني، وتضرب الروايات بعضها ببعض حتى تقدم تصوراً لكل مرحلة من حياته.

البدايات: السنوات الغامضة

تبدأ الكاتبة بدراسة السنوات السبع والعشرين الأولى من حياة الأفغاني بين عامَي 1838 و1866، وهي السنوات التي لا تتوفر فيها وثائق كافية يمكن التعويل عليها. وتميل إلى أن جمال الدين وُلد في إيران في قرية أسد آباد قرب مدينة همذان، وأنه تجنب ذكر ذلك حتى لا يتم ربطه بالمذهب الشيعي، وقد عرف بالذكاء والنبوغ منذ الصغر، وكان لديه ولع بالكتب.

اصطحبه والده إلى النجف وتَعلَّم فيها بعض الوقت. وتنبّهنا المؤلفة لولعه بدراسة الفلسفة منذ شبابه. وبعد ذلك غادر إلى الهند في أواخر سن المراهقة، وتوضح الكاتبة أن تجربة الهند تركت أثراً في شخصيته، حيث رأى الاحتلال البريطاني. والأمر الثاني الذي عرفه في الهند هو العلوم الحديثة والمعارف الغربية. وبعد الإقامة في الهند قام برحلة إلى مكة ومر بالعديد من البلدان مثل إيران، وفي هذه الزيارة قابل والده وغيره من الأقرباء وطلبوا منه الاستقرار، وكان رده: "إني مثل الصقر، طيار المسافات الطويلة، يرى فضاء الكون الشاسع يضيق عن طيرانه، فكيف تريدون إذاً أن تقيدوا قدمي وتسجنوني في القفص الصغير؟ أنا مثل الصقر الملكي".

مستشار سياسي في أفغانستان 1866-1868

وصل جمال الدين إلى هراة عام 1868، وما إن استولى أعظم خان على قندهار، حتى زادت أنشطة جمال الدين. هنا نرى الظهور الأول لجمال الدين الرومي في الوثائق الإنجليزية، "الرومي" كما لقّب نفسه في هذه المرحلة، وأحياناً الإسطنبولي. يأتي ذكر اسم جمال الدين في تقرير المراسل الإخباري للحكومة البريطانية الذي يبلغ حكومة الهند بالأحداث في أفغانستان. هنا نرى الوثائق تحكي لنا عن مستشار أجنبي لحاكم أفغانستان ينصح الأمير أعظم خان باتخاذ مسار عدائي ضد بريطانيا.

في الأرشيف الإنجليزي حكايات عن بدايات أسطورة الأفغاني باعتباره مستشاراً يقابل الأمير سرّاً، ويمنحه الأمير 200 روبية في الشهر إعالة أو ضيافة، ومن الطريف أن الأفغاني كان يرى في الروس حليفاً مناسباً على عكس بريطانيا.

ونرى وثيقة أخرى تحكي عن حوار بين الأفغاني وعميل بريطاني، ويصفه البريطاني بأنه شابّ في سن الـ35، يقدم تحليلاً سياسياً عن التحالفات الدولية، والفرق بين روسيا وبريطانيا، ومستقبل أفغانستان، ونلاحظ غياب السؤال الديني أو فكرة الجامعة الإسلامية في ذلك الوقت. يبدو لنا جمال الدين ناشطاً سياسياً ورجلاً ثورياً، ينتعش في ظلال بيوت الحكم وفي صناعة المؤامرات وتدبير أمور السياسية وإيصال رسائل إلى الحكام. تتساءل الكاتبة كيف وصل إلى هذه المكانة وهو في هذه السن الصغيرة، والإجابة هي النبوغ الفكري والكاريزما وامتلاكه المعلومات السياسية والاطلاع على الشأن الدولي، بما يؤهله ليكون قريباً من دوائر السلطة.

في هذه الفترة كان جمال الدين يلبس زي التتار في شرق القوقاز، يشرب الشاي باستمرار، ويدخن حسب الأسلوب الفارسي، ومتضلع في الجغرافيا والتاريخ، ويتحدث العربية والتركية بطلاقة، والفارسية، ولا يتبع مذهباً معيَّناً كما لاحظ الذي كتب التقرير، وينبّهنا أن أسلوبه في العيش أقرب شبهاً بالأوروبي منه بالمسلم، ومعه خادم اسمه أبو تراب.

في صيف عام 1868 تدهور الوضع العسكري لأعظم خان، ونجح شير علي في الوصول إلى السلطة. لم يستطع جمال الدين أن يكمل دور المستشار في أفغانستان مع تغيُّر الحكم، وطلب السماح له بالمغادرة. فشل التجربة في أفغانستان جعله في أشد حالات شقاء الفكر وحزن القلب في كابول، وكتب ساعتها نصّاً بالفارسية، لفت نظري فيه عبارة "نُفيتُ من المسجد ورُفضت في المعبد"، ولعل هذه السنوات ساعدته لاحقاً لتصنيف كتابه عن تاريخ الأفغان، واستخدام حكايات شدتهم القتالية لإثارة حماسة المسلمين للقتال ضد بريطانيا.

في إسطنبول وفي القاهرة

حاول جمال الدين العودة إلى الهند بعد أفغانستان، لكن البريطانيين طلبوا منه مغادرة الهند. وصل إلى إسطنبول عام 1869، وفيها حصل على عضوية مجلس المعارف الرسمي. ألقى خطاباً في افتتاح الجامعة الجديدة في فبراير 1870، لصلته مع تحسين أفندي مدير الجامعة. وتقف الكاتبة عند تجربته الأولى في إسطنبول، وانزعاج المؤسسة الدينية منه بعد إلقائه محاضرة، تم تأويل بعض أفكارها ضده. وأصدر شيخ الإسلام قراراً بتكفيره وإبعاده عن إسطنبول. تصحبنا الكاتبة لتوضيح الحالة الثقافية في إسطنبول في تلك الفترة، والصراع بين التغريب والمؤسسة الدينية، وتستعرض آراء المؤرخين الأتراك في سبب هذا الإبعاد.

الخروج من تركيا جعله يفكر في الاستقرار في مصر، وتلك كانت من أنضج سنوات عطائه الفكري وقوّته الحركية. جعل مصر مقراً لنشاطاته من عام 1871 إلى 1879، وكما تفعل المؤلفة في كل فصل تشرح لنا الجوّ العامّ في البلد الذي يعيش فيه الأفغاني، لقد وصل في نهاية حكم إسماعيل، وبريطانيا تفكر في احتلال مصر. كانت مدرسة الأفغاني في بيته وفي المقهى: يقابل الطلبة والأعيان. اقترب منه في تلك الفترة يعقوب صنوع، ومحمد عبده الشابّ، وكذلك تَعرف سعد زغلول إليه... لقد أعجب به محمد عبده وتعامل معه بطريقة الشيخ والمريد، لقد انبهر محمد عبده بعلم الأفغاني في التفسير والتصوف.

استطاع الأفغاني أن يمارس قدرة كبيرة على التأثير في الرأي العامّ، عبر توجيه تلاميذه لفتح الجرائد، وقيامه بالمحاضرات العامة، وتثوير المجتمع عبر المقالات، والحديث المستمر عن الحكومة الدستورية، وعيوب الاستبداد. وهنا نرى جذور أفكار الكواكبي عند الأفغاني، حينما كتب: "أنت أيها الفلاح المسكين تشقّ الأرض لتستنبت منها ما يسدّ الرمق، فلماذا لا تشقّ قلب ظالمك؟".

تفصّل الكاتبة الطرق السياسية التي استخدمها الأفغاني، بحيث نراه ناشطاً ثورياً، وفي هذه الفترة انضمّ إلى المحفل الماسوني وأدخل ولي العهد توفيق معه. ونفهم من الكتاب أن الانضمام كان لأغراض سياسية، ولم يرتبط بأي طقوس دينية أو مؤامرات دينية، نكمل الرحلة معه كأنها رواية تتصاعد أحداثها، حتى إنه فكر في اغتيال الخديو إسماعيل، وعرض الفكرة على محمد عبده.

قامت الكاتبة بالإلمام بكل الصور الممكنة لشخصية الأفغاني عبر استنطاق مذكرات تلاميذه الذين تحلقوا حوله في القاهرة على قهوة ماتيتا مثل إبراهيم الهلباوي وسليم العنحوري وأديب إسحق. وفي ما يتصل بحياة الأفغاني الشخصية، لا نعرف أكثر من روابطه الوثيقة مع تلاميذه ومريديه، ولم يُعرف عنه في مصر علاقته بأي امرأة، ولديه موقف إيجابي من تعليم المرأة.

ملحمة الأفغاني

تستمر الكاتبة نيكي كيدي في تتبع مراحل حياة الأفغاني في باريس حينما أسس العروة الوثقى مع محمد عبده، ثم في إسطنبول حينما عاش فيها بأمر من السلطان. الكتاب يغوص بنا في عالم أواخر القرن التاسع عشر، حيث مؤامرات دول الاستعمار البريطاني، والأمة بين تخاذل نخبتها الحاكمة وبين الأفكار القديمة، والأفغاني واحد من أوائل من حاول مواجهة مشكلة تكييف التقاليد التراثية الإسلامية للتصدي لمشكلات جديدة، دون أن يقنع بفصل الإصلاح عن الدين بوصفهما مجالين متمايزين.

تشير الكاتبة إلى امتلاك جمال الدين الأفغاني توليفة يصعب حل لغزها، احتوت على التصوف، وميل إلى المزاج الباطني، ونزعة شكوكية في بعض الأحيان. وتنبهنا الكاتبة إلى أن القول إن جمال الدين لم يعبّر دوماً عن حقيقته لا يعني لومه أخلاقياً، إذ لم تكُن اهتمامات جمال الدين تتعلق بالسيرة الحياتية، بل بتحرير المسلمين من التعديات الأوروبية وإصلاح حياتهم وسياستهم. قدمت نيكي كيدي حياة الأفغاني عبر العشرات من المصادر والكثير من النظرات النقدية في الروايات المكتوبة حوله، وجاءت الترجمة سلسة بديعة، واحتوت على أصول الاقتباسات العربية من بطون المجلات والصحف النادرة.

الكتاب قصة تشبه الروايات عن رجل جوال مفكر عابر للحدود، وثوري مبكر ومحرض على التغيير، وكاتب سياسي وخطيب، استطاع عبر بلاغته وذكائه وشخصيته الآسرة بلوغ مكانة سريعة عند الشخصيات المهمة في كل مكان يصل إليه وجمهور كبير من القراء والمثقفين.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً