تابعنا
قبل أيام قدم ثلاثة من أعضاء البرلمان عن حزب الشعب الجمهوري -أكبر أحزاب المعارضة في تركيا- استقالتهم من حزبهم، بعد مدة من الخلاف مع قيادته وخصوصاً رئيسه كمال كليتشدار أوغلو.

النواب الثلاثة، محمد علي جلبي عن إزمير، وحسين عوني أكصوي عن كارابوك، وأوزجان أوزال عن يالوفا، أعلنوا استقالتهم في مؤتمر صحافي علني، بعد رسالة كانوا قد وجهوها إلى قيادة الحزب قالوا إنه لم يُرَد عليها.

الأسباب التي ذكرها النواب لاستقالتهم الجماعية تراوحت بين غياب/تراجع الديمقراطية داخل حزبهم الشعب الجمهوري، وعدم نجاح محاولاتهم السابقة لإصلاح بعض الأخطاء من داخله، إضافة إلى بعض الخيارات السياسية مثل تقاربه مع حزب الشعوب الديمقراطي (الذي يعد الذراع السياسية لمنظمة PKK الإرهابية) وفكرة ترشيح الرئيس الأسبق عبد الله غل للرئاسة كمرشح توافقي للمعارضة.

ورغم أن النواب الثلاثة رفضوا الإجابة عن سؤال بخصوص علاقتهم بالقيادي البارز في الحزب ومرشحه للانتخابات الرئاسية الأخيرة محرّم إينجه، فإن المتوقع انضمامهم إلى الحزب الذي يُنتظر أن يؤسسه بعد استقالته منه قريباً، وهو ما أكده إينجه نفسه يوم الأحد الفائت.

وإينجه، فضلاً عن كونه مرشح حزبه للانتخابات الرئاسية الأخيرة، قيادي بارز في الحزب عن مدينة يالوفا (نفس مدينة أحد النواب المستقيلين) كان قد ترشح ثلاث مرات لرئاسة الحزب في مواجهة رئيسه الحالي كمال كليتشدار أوغلو.

حسين عوني أكصوي عن ولاية كرابوك الذي استقال مؤخرا من حزب الشعب الجمهوري  (AA)

بعد خسارته انتخابات الرئاسة ازدادت حدة الخلاف بين إينجه وكليتشدار أوغلو، خصوصاً بعدما ظهر وكأن الأخير أبعده عن دوائر الحزب القيادية، ما حدا به إلى إعلان تأسيسه "حركة البلد" كما سماها في أيلول/سبتمبر الفائت، قبل أن يقول مؤخراً إنه يعتزم الاستقالة من حزبه وتأسيس حزب جديد يحمل نفس الاسم أي "حزب البلد".

وهكذا يبدو أكبر أحزاب المعارضة وأقدم الأحزاب التركية أمام خطر الانشقاق والتشظي بعدما تعرضت أحزاب أخرى مؤخراً لنفس الأمر بدرجة أو بأخرى. فالحزب "الجيد" انشق عن الحركة القومية، وحزبا "المستقبل" و"التقدم والديمقراطية" خرجا من رحم العدالة والتنمية، وحزب الرفاه مجدداً هو آخر الأحزاب التي خرجت عن إطار الفكر الوطني أو "ميللي غوروش" الممثــَّـلِ مؤخراً في حزب السعادة. ويبدو هنا أن الانتقال إلى النظام الرئاسي كان من ضمن الأسباب التي سرّعت من تشكيل أحزاب جديدة بعد أن تراجعت في ظله أهمية تماسك الأحزاب ووحدتها ما فاقم الديناميات الخلافية فيها، إذ باتت مؤسسة الرئاسة أهم وأولى من الأحزاب السياسية.

هي ليست المرة الأولى بالتأكيد التي يخرج فيها قيادي من حزب الشعب الجمهوري ليؤسس حزباً جديداً. سابقاً خرجت قيادات كبيرة من وزن رئيس الوزراء الأسبق بولند أجاويد، وفي السنوات القليلة الماضية خرجت مجموعة بقيادة أمينة أولكر تارهان لتؤسس حزب الأناضول، وأسس نائب رئيس الحزب الأسبق أوزتورك يلماظ حزب "التجديد"، وكذلك رئيس بلدية شيشلي الأسبق مصطفى صاريغول حزب "تغيير تركيا".

لكن أياً منهم لم يؤثر بشكل كبير على حزب الشعب الجمهوري، ولم يسحب من رصيده أو جماهيريته بنسبة ملموسة. لأن تجارب الانشقاق عن حزب كبير وعريق ليست مشجعة في الأغلب في تركيا، فكيف إذا كان الحزب الأقدم في البلاد والذي يحمل رمزية أنه "حزب أتاتورك"؟ولكن ورغم ذلك، يبدو الأمر مختلفاً نسبياً هذه المرة مع إينجه.

الاختلافات بين انشقاق محرّم إينجه المرتقب عن الانشقاقات السابقة كثيرة ومهمة. فهو شخصية قوية وقيادي بارز في الحزب منذ أن كان نائباً في البرلمان حيث عرف بخطاباته القوية ومعارضته الشرسة للحكومة. كما أنه رشح نفسه ثلاث مرات أمام رئيس الحزب، ولولا أن الانتخابات البلدية الأخيرة قد أكسبت الشعب الجمهوري بلديتَي أنقرة وإسطنبول لكان منافساً أقوى أمامه مرة أخرى.

محرم إنجه (AA)

كذلك فإن خلفه تيار واسع في الحزب إذ حصل على نحو ثلث أصوات المندوبين في المؤتمر العام للحزب في المرات الثلاث التي ترشح فيها ضد كليتشدار أوغلو. فضلاً عن أنه يمثل الفكر الكمالي التقليدي في الحزب الذي يرى أن كليتشدار أوغلو قد غيّر من هوية الحزب وخطابه من خلال التودد مؤخراً إلى الشريحة المحافظة.

أكثر من ذلك، فإن إينجه وعلى الرغم من خسارته الانتخابات الرئاسية أمام الرئيس أردوغان فقد حصل على نسبة %30 من أصوات الناخبين بواقع أكثر من 15 مليون صوت، أي أعلى مما حصل عليه حزبه في الانتخابات البرلمانية بملايين الأصوات. وهو لا يُخفي نيته إعادة الترشح بالانتخابات الرئاسية المقبلة، وبالتالي فهو يمثل أملاً ما لشريحة واسعة من أنصار الشعب الجمهوري.

فإلى أين تسير الأمور؟

لا يزال من المحتمل أن يكون كل ما يقوم به إينجه مجرد أوراق تفاوضية للضغط على حزبه لإعادته إلى دوائر صنع القرار، أو ربما كسب رئاسة الحزب مستقبلاً، ولكن المرجَّح أنه وصل مع حزبه إلى نقطة اللا عودة، ما يعني تأسيس الحزب الجديد وإشهاره. فما تأثير ذلك على الشعب الجمهوري؟

في هذه اللحظة ليس واضحاً بعد مَن الفريق الذي سيكون إلى جانب إينجه في حزبه الجديد؟، وهل ستحصل استقالات إضافية للانضمام إليه أو لا وكم عددها؟، وإلى أي مدى سيكون في القيادات والكوادر والأنصار من الشعب الجمهوري انزياح إلى "البلد"؟، وبالتالي من الصعوبة بمكان تقدير مدى قوة الحزب الجديد وحضوره.

ولكن في كل الأحوال سيشكل الحزب الوليد تحدياً وخطراً على أكبر أحزاب المعارضة من ثلاث زوايا على الأقل:

الأولى، الخَصْم من رصيده الجماهيري وقاعدته التصويتية بنسبة أو بأخرى سوف تتضح أكثر لاحقاً لا سيما وقت اقتراب الاستحقاق الانتخابي، وهو ما سيضعف الشعب الجمهوري أمام العدالة والتنمية الحاكم من جهة والأحزاب المنضوية في تحالف "الأمة" المعارض الذي يقوده هو من جهة أخرى.

الثانية، المزايدة عليه في الخطاب والسياسات والتوجهات بما قد يدفعه إلى التقارب أكثر مع خطابه التقليدي القديم حفاظاً على كتلته الصلبة، الأمر الذي سيضعف قدرته على التأثير في شرائح أخرى من جهة ومنظومة تحالفاته مع أحزاب مثل "الجيد" و"السعادة" من جهة أخرى.

رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أولو في لقاء مع علي باباجان رئيس حزب الديمقراطية والتقدم (ديفا)  (AA)

الثالثة، كون أحد أهم أسباب استقالة النواب الثلاثة هي العلاقة مع حزب "الشعوب الديمقراطي"، فإن ذلك سيشكل ضغطاً كبيراً على "الشعب الجمهوري" في المرحلة المقبلة، فإما أن يستمر في العلاقة غير المعلنة معه وبالتالي يخسر داخلياً (داخل الحزب) وإما أن يضطر إلى التراجع عنها فيخسر خارجياً (أمام الحزب الحاكم).

في الخلاصة، لا يزال الوقت باكراً لتقدير مدى قوة الحزب الوليد المنتظر من رحم الشعب الجمهوري وكم سيكون رصيده في الشارع التركي، لكن مجرد الشروع في هذا المسار يضع ضغوطاً غير مسبوقة على الحزب ويضعفُ بشكل غير مباشر تحالفَ الأمة المعارض، وبالتالي يصب في مصلحة العدالة والتنمية وحلفائه.

فكما احتفى "الشعب الجمهوري" بالحزبين اللذيْن خرجا من رحم العدالة والتنمية وبنى معهما علاقات ويحاول كسبهما لتحالفه المعارض، إضافة إلى الحزب "الجيد" المنشق عن الحركة القومية، فإن تأسيس حزب من بعض قيادات الشعب الجمهوري سيكون فرصة كبيرة للعدالة والتنمية ليضعف أكبر الأحزاب المعارضة له. ذلك أن الجانبين يعملان مؤخراً ضمن استراتيجية مبنية من شقين: تَمْتِين التحالف وإضعاف (وتشتيت إن أمكن) التحالف المقابل، وهي الفرصة التي لن يفوتها حزب العدالة والتنمية كما يبدو.


جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً