جنود ينقلون شاحنات على جسر عائم عبر نهر خلال التدريبات العسكرية المشتركة التي أجرتها روسيا وبيلاروسيا في سبتمبر. (Others)
تابعنا

واستعدادها لإطلاق مائة كتيبة مكونة من مجموعات تكتيكية بقوة تقدر بـ175 ألف رجل إلى جانب دبابات ومدفعية ومعدات أخرى تجاه جارتها. تأتي هذه التطورات بموازاة إرسال أكثر من 10 آلاف جندي روسي إلى تلك المنطقة بالإضافة إلى الآليات والمعدّات العسكرية لدعم المناورات الحربية التي أجرتها روسيا في تلك المنطقة ووُصفت بأنّها استعراض للقوة ورسالة للمعنّيين بالأمر.

على مستوى الحرب النفسية، أطلقت روسيا تصريحات تفيد بأنّها تشعر بالتهديد من مناورات حلف شمال الأطلسي، مُعتبرةً أنّ التعزيزات العسكرية الأوكرانية للدفاع عن حدودها في دونباس مغامرة خطيرة، وأنّ أي تصعيد من الجانب الأوكراني قد يؤدي في النهاية إلى تدمير أوكرانيا بأكملها على حد قول وزير الخارجية الروسي. وأشار نائب رئيس لجنة الشؤون الدولية في الدوما إلى أن روسيا لا تعتبر نفسها في حالة حرب ضد أوكرانيا لكن "لو أردنا غزوها لفعلنا"، كما صرّح رئيس هيئة الأركان الروسي بأنّ أي محاولة لانتهاك حدود روسيا ستُردع.

توحي هذه التصريحات الروسية بأنّ موسكو هي التي تخشى حرباً ضدّها في الوقت الذي تحشد فيه عسكرياً على الحدود مع أوكرانيا. ويمكن فهم هذه التصريحات أنّها محاولة لتبرير أي عمل عسكري خارجي أكثر من كونها تعبير عن خشية روسية من تهديد غير موجود ضدّها. أمّا بالنسبة إلى الدول المعنيّة مباشرة بالتصعيد الروسي كالاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة، فالرد كان باهتاً ودون مستوى التهديد الفعلي.

ورغم أنّ تقديرات وكالة المخابرات المركزية أشارت إلى احتمال أن يغزو بوتين أوكرانيا مطلع عام 2022، فإن جُلّ ما فعله الأوروبيون والأمريكيون حتى الآن هو إطلاق التصريحات، وفي كثير من الأحيان الامتناع عن إطلاقها خشية من ردّة فعل روسية. الرئيس الأمريكي جو بايدن قال إنّه "سيجعل من الصعب جدا على روسيا أن تغزو أوكرانيا"، مشيراً إلى أنّه على اتصال دائم مع الحلفاء الأوروبيين ومع أوكرانيا. أمّا وزير الخارجية أنتوني بلينكن فقال إنّ "أي اعتداءات روسية على أوكرانيا ستترتب عليها عقوبات اقتصادية لم تنفذها بلاده من قبل".

نفهم من هذه التصريحات أنّ الرد الغربي على إمكانية غزو روسيا لدولة كبيرة ومهمّة مثل أوكرانيا قد يقتصر على بعض العقوبات الاقتصادية التي ثبت عدم جدواها في حالات مماثلة نظراً للتراجع عنها أو للتغاضي عن اختراقها أو لعدم الإلتزام بها من قبل الأطراف المعنيّة. علاوةً على ذلك، فانّ مصداقيّة الولايات المتّحدة كضامن لأمن الشركاء والحلفاء تراجعت بشكل مهول خلال السنوات الماضية.

بالنسبة إلى التهديدات الروسية على سبيل المثال، فرغم أنّ جورجيا الصغيرة كانت قد ألحقت خسائر فادحة بالقوات الروسية خلال هجومهم عليها في حرب أوسيتيا الجنوبية عام 2008، فإنّها لم تستطع أن تصمد في نهاية المطاف أمام تدفّق المزيد من القوات الروسية خاصّة أنّها تُركت وحدها آنذاك، وجُلّ ما جرى هو فرض عقوبات اقتصادية على موسكو لم تردعها ولم تفضِ إلى دفعها للانسحاب من جورجيا، حيث لا تزال مناطق منها (أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية) تخضع للاحتلال الروسي بعد تقسيمها، وفيها قوات روسية.

في العام 2014، أعادت روسيا الكرّة واحتلت هذه المرّة أجزاء من أوكرانيا، واعتمدت أسلوب الحرب الهجينة في عملياتها وأدخلت قوات غير نظامية دون شارات تابعة لها، واستولت هذه القوات على المقار الحكومية والمواقع الاستراتيجية في شبه جزيرة القرم، وانتهى الأمر بسيطرة روسيا على القرم وضمّها إلى أراضيها، كما بقيت قوات روسية غير نظامية إلى جانب قوات انفصالية أوكرانية من أصل روسي في مناطق أوكرانية سيطرت عليها منذ ذلك الوقت حتى اليوم.

وفي العام 2015، تدخّلت روسيا في سوريا عسكرياً وحالت دون سقوط نظام الأسد، بل ودعمته في حربه ضد الشعب السوري رغم الخطوط الحمراء الأمريكية التي كان الرئيس أوباما يؤكد عليها بشكل دوري. إذا راجعنا هذه الحالات وحالات أخرى مماثلة من تدخل روسيا العسكري في غيرها من البلدان، نلاحظ إتجاهات متكررة بشكل واضح في تحرّكات روسيا العسكرية وفي رد الفعل الأمريكي والأوروبي على هذه التحركات.

على سبيل المثال، غالباً تتحرك روسيا عسكرياً في ظروف جيوبوليتيكية حرجة، لا سيّما عندما يكون الرئيس الأمريكي في حالة البطّة العرجاء، لمنع واشنطن من إتخاذ إجراءات حاسمة، بفرض أنّ الولايات المتّحدة تريد ذلك بالفعل. فضلاً عن هذا، فإنّ جُلّ ما تفعله الولايات المتّحدة وحلفاؤها الغربيون في مثل هذه الحالات عقوبات شكلية مع انفتاح على مساومات لإرضاء الخصم المفترض، أي روسيا في هذه الحالة. الفكرة الأساسية التي تكمن خلف هذا الخيار، أنّ مساومات معقولة من شأنها أن تقنع موسكو بعدم صوابية قراراتها ذات الصلة بالعدوان العسكري.

لكن الاعتقاد أنّ تقديم التنازلات لروسيا أو غيرها من الدول (كإيران) على سبيل المثال، من شأنه أن يُقنع هذه الدول بتغيير سلوكها أو دوافعها هو أمر حالم في أحسن الأحوال، تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى الاعتقاد أنّ فرض عقوبات شكلية من شأنه أن يدفع مثل هذه الدول إلى التراجع عن سياساتها. في نهاية المطاف، الواقع أنّ موسكو لم تتراجع في جورجيا أو أوكرانيا أو سوريا، ولو قررت بالفعل اجتياح كييف، فإنّ أوروبا الضعيفة المنقسمة على نفسها والتي تعتمد على روسيا بشكل أساسي في إمدادات الغاز لن تقف في طريقها. أمّا الولايات المتّحدة، فلديها تاريخ حافل في التخلي عن الحلفاء والشركاء وقت الشدّة خاصة إذا لم تكن مصالحها تأثّرت بشكل مباشر.

ولعلّ التصعيد في الخليج عام 2017 والمتمثّل في حصار قطر، وما تلاه من هجمات مدعومة من إيران ضد منشآت السعودية النفطية الاستراتيجية، مؤشر على تراجع مصداقية الولايات المتّحدة كضامن لأمن شركائها وحلفائها في المنطقة والعالم. واشنطن لم ترد بشكل حاسم على أي من هذه التهديدات، كما أنّها تخلّت لاحقاً عن حليفها الأفغاني الرئيس السابق أشرف غني، وأرسلت طريقة انسحابها العشوائية والفوضوية رسائل سلبية عن مدى قدرتها على التعامل مع التحدّيات الجسيمة خارج حدودها.

أوكرانيا في وضع لا تُحسد عليه، الاستسلام لروسيا غير وارد، والاعتماد على الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي لا يسمن ولا يغني من جوع كما يُقال، مناقشة عضويتها المستقبلية في الاتحاد الأوروبي خط أحمر بالنسبة لموسكو، وتطوير كييف لقدرات رادعة في مثل هذه الظروف صعب. المفارقة أنّ أوكرانيا تخلّت عن أسلحتها النووية عام 1994 مقابل ضمانات روسية بعدم الاعتداء على سيادتها وضمانات أمنيّة أمريكية بالدعم والمساعدة، لكن الاحتلال الروسي لأجزاء من أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم إلى الأراضي الروسية يثبت أنّ القوّة هي المعيار الحاكم في العلاقات الدولية، وأنّ القوانين والمعاهدات لا تُحترم إلا عندما يكون الطرف المعني بها قوياً.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً